بعيداً في عُمق الخراب، ما زلتُ أحملُ جثتي أشلاء، بعيداً في أسفل أسفل الحياة، أكتبُ حديث الوجعِ مترنحاً في قفطان تلك الحياة. ليكن ما ستقرأونه هذراً أو هذياناً لا يُعتبُ على صاحبهِ، ليكن ما تشاؤونَ أن تَجِدوه أو تنكُروه أو تعيشوه، لكن صدقوا الأحرف بكامل الروح في حياتها.
حتى هذه اللحظة، لم أترك غرفتي، لم أفكر بعدُ أن أتركَ غرفتي.
حتى هذه اللحظة، لم أترك غرفتي، لم أفكر بعدُ أن أتركَ غرفتي.
عشتُ الخوف وما زلت، خانتني رجولة السرير في أغلب الأحيان، تخيلتُ موتي في كلِّ لحظة، والأمرُّ، ترافقني صورةٌ ترتعشُ لها كلُّ الأشلاء من جثتي الحيّة، صورة حَملي لولديَّ محروقين! التقطتها كاميرا خيال الحرب والخوف.
نقعتُ الخبز في الماء وأطعمتُ ولديَّ، أحرقتُ لساني في عتمةٍ طويلة لُأسلي ولديّ، التحفتُ جدران (اللبِن) واللحاف والبطانيات منكمشاً من ثلجٍ عدوٍ ومن شتاءٍ أخطأ عنوان أمكنتنا، بفقدان المحروقات، وما زلتُ لا أفكرُ بترك بيتي والأدقُّ غرفتي.
مشيتُ جنازات شهداء وأموات قَهر، حضرتُ خراب التفجيرات وأضواء الباقي من نيرانها، ونيران جُثةٍ رافقتها، لكن، في اليوم التالي في بقائي حيّاً أُلقن طلابي دروس الفيزياء والكيمياء والحياة، وكلُّ ما فيَّ من أثر، سكينٌ تقطع داخلي ببطء.
ما زلتُ في الشوارع ذاتها، مازلتُ أتفحصُ نفس الوجوه، غائبةً، حاضرةً، أتخيّلُها، أخلقُها، أُسلِم عليها، لا بل على خيالها، لا أخجل من حنيني رغم كل الفراغ.
مازلت أرقص على موسيقا الراحلين، متناسياً أصوات الرصاص ودخان النار، لكنني لم أفكر بعد بتركِ غرفتي.
عشتُ وما زلت، متبدلاً، كلّ لحظة، كلّ حلم، كلّ يوم، كلّ يقظة، كتبدُلِ الرايات مهزومةً أو منتصرةً، رايةٌ تُرفع بالسلاح، وتُنزَل لتُرفع أخرى أيضاً بالسلاح، صورةٌ تُنزل بالسلاح، وأخرى تُعلّق بالسلاح، لا صوت يعلو فوق صوت الموت ولا رأي يؤخذ بانقراض الصوَر وانبلاج حقوق الإنسان، لا طرفَ منتصرا يسأل الهامشيين أمثالي والفقراء. وحده السلاح يُقرِّر.
ابني أحياناً حاملُ دوشكا وأخرى قناصًا وأخرى حاملُ روسية وأحياناً قاذف هاون، هكذا غدت ألعابهُ، هكذا انتحرت طفولته، ابني يُميُّز صوت الطائرة الحربية رغم كذبنا البريء بأنه رعدٌ في تموز، ابني يلعنُ هذا وذاك، وأنا مازلتُ أحمله على قراءة ما لا طاقة لهُ به من الكتب!
عشتُ مع الخراب، خراب تاجر، خراب صديق، خراب جار، خراب شارع، وخراب الخير كلّه مع خراب الحياة، لكن، بعد كلّ هذا الخراب وخراب نفسي ما زلت في غرفتي، فيها أكتبُ عن خراب البحر، عن خراب الحدود، عن خراب الإنسانية، وكلّ خراب.. أكتبهُ من غرفتي وفيها.
(سورية)
نقعتُ الخبز في الماء وأطعمتُ ولديَّ، أحرقتُ لساني في عتمةٍ طويلة لُأسلي ولديّ، التحفتُ جدران (اللبِن) واللحاف والبطانيات منكمشاً من ثلجٍ عدوٍ ومن شتاءٍ أخطأ عنوان أمكنتنا، بفقدان المحروقات، وما زلتُ لا أفكرُ بترك بيتي والأدقُّ غرفتي.
مشيتُ جنازات شهداء وأموات قَهر، حضرتُ خراب التفجيرات وأضواء الباقي من نيرانها، ونيران جُثةٍ رافقتها، لكن، في اليوم التالي في بقائي حيّاً أُلقن طلابي دروس الفيزياء والكيمياء والحياة، وكلُّ ما فيَّ من أثر، سكينٌ تقطع داخلي ببطء.
ما زلتُ في الشوارع ذاتها، مازلتُ أتفحصُ نفس الوجوه، غائبةً، حاضرةً، أتخيّلُها، أخلقُها، أُسلِم عليها، لا بل على خيالها، لا أخجل من حنيني رغم كل الفراغ.
مازلت أرقص على موسيقا الراحلين، متناسياً أصوات الرصاص ودخان النار، لكنني لم أفكر بعد بتركِ غرفتي.
عشتُ وما زلت، متبدلاً، كلّ لحظة، كلّ حلم، كلّ يوم، كلّ يقظة، كتبدُلِ الرايات مهزومةً أو منتصرةً، رايةٌ تُرفع بالسلاح، وتُنزَل لتُرفع أخرى أيضاً بالسلاح، صورةٌ تُنزل بالسلاح، وأخرى تُعلّق بالسلاح، لا صوت يعلو فوق صوت الموت ولا رأي يؤخذ بانقراض الصوَر وانبلاج حقوق الإنسان، لا طرفَ منتصرا يسأل الهامشيين أمثالي والفقراء. وحده السلاح يُقرِّر.
ابني أحياناً حاملُ دوشكا وأخرى قناصًا وأخرى حاملُ روسية وأحياناً قاذف هاون، هكذا غدت ألعابهُ، هكذا انتحرت طفولته، ابني يُميُّز صوت الطائرة الحربية رغم كذبنا البريء بأنه رعدٌ في تموز، ابني يلعنُ هذا وذاك، وأنا مازلتُ أحمله على قراءة ما لا طاقة لهُ به من الكتب!
عشتُ مع الخراب، خراب تاجر، خراب صديق، خراب جار، خراب شارع، وخراب الخير كلّه مع خراب الحياة، لكن، بعد كلّ هذا الخراب وخراب نفسي ما زلت في غرفتي، فيها أكتبُ عن خراب البحر، عن خراب الحدود، عن خراب الإنسانية، وكلّ خراب.. أكتبهُ من غرفتي وفيها.
(سورية)