كان تدمير منزل جبرا إبراهيم جبرا، الروائي والشاعر والناقد الفسطيني الراحل، في بغداد بعد العدوان الأميركي على العراق بمثابة نقطة انطلاق لكتاب "الرواية الفلسطينية - من 1948 إلى الآن" (منشورات كامبريدج) للناقد والأكاديمي الفلسطيني بشير أبو منّة، والذي راح يتساءل عن كيفية إعادة بناء كل ما ضاع، من مخطوطات وكتب ووثائق، وكانت الوسيلة الوحيدة برأيه، هي الرواية، للدخول إلى عالم أفكار جبرا واسترجاع تجربته.
في حديث مع "العربي الجديد" يقول أبو منّة (1972)، المحاضر في أدب ما بعد الاستعمار ومدير "مركز دراسات الاستعمار وما بعد الاستعمار" في جامعة كينت البريطانية، إنّ كتابه هو محاولة بناء تصوّر أو تحليل عن تطوّر الرواية الفلسطينية من عام 1948 لغاية اليوم، وكيفية تأثير التغييرات السياسية والتاريخية التي مرّ بها الشعب الفلسطيني على الرواية.
ويلفت أبو منّة إلى أنّ محاولات أخرى موجودة باللغة العربية، لكنّه أراد أن يكتب عنه بالإنكليزية وحاول أن يعبّر عنه بطريقة التحليل المادي للتاريخ الفلسطيني خصوصاً التغييرات السياسية التي حدثت مثل نشوء الحركة الوطنية والحركة الثورية وكيفية تجاوب الروائيين معها ومع كيفية فشل المشروع الوطني الفلسطيني في نهاية المطاف. كما حاول أن يظهر التغيير من نظرة واقعية للرواية التي أسّست في الخمسينيات والستينيات خصوصاً مع جبرا، وكيف انتقلت إلى شكل أكثر حداثة لتعبّر عن أزمة معيّنة، أزمة تاريخية وسياسية وثقافية.
ويعتقد أبو منّة أنّ اعتبار جبرا "كاتباً بورجوازياً" في وقت من الأوقات خاطئ تماماً، بل هو أكثر كاتب رومنطيقي وواقعي في الرواية، ممّن حاولوا تصوّر المجتمع العربي وتحدّيه والتضحية من أجل تغييره وحمايته من القمع، وإنهاء قمع الفرد والذات، وهذه ليست من مواصفات الكاتب البورجوازي، على الرّغم من اهتمامه بالمفكّرين والطبقة البورجوازية والأمور الثقافية أكثر من اهتمامه بالأمور الشعبية. لكن كتاباته تركّز على تأثير التغييرات السياسية من وجهة نظره.
ويضيف أبو منّة أنّ جبرا كان كاتباً ثورياً يحاول تغيير المجتمع العربي، وخير مثال على ذلك اختياره الرواية التي كتبها جبرا مع عبد الرحمن منيف "عالم بلا خرائط" في كتابه "الرواية الفلسطينية"، كونها تعبّر عن محاولة بناء ثقافة ديمقراطية تتحدّى العالم العربي والأنظمة القمعية والهيمنة السعودية وسيطرة النفط على العالم العربي، وتحاول بناء الفرد من جديد، فرد متحرّر بمجتمع متحرّر.
وعن تفضيله جبرا على الروائيين الذين اختارهم في كتابه، يقول أبو منّة إنّ جبرا ليس أهمّ من غسان كنفاني، لكنّه سعى إلى تطوير الرواية فنياً أكثر من كنفاني، فالأخير كان منهمكاً أكثر في العمل السياسي، وكانت رواياته تتجاوب على الفور مع الواقع الفلسطيني، أمّا جبرا فكان جزءاً من التيار الثوري الفلسطيني، وتكمن أهميته في قدرته على تحدي وجهة النظر ليس فقط الإسرائيلية عن "الشرق الاوسط" بل وجهة النظر الوطنية الفلسطينية الضيقة، لأنّه حاول بناء مجتمع عادل يتحرّر فيه الفرد.
قد يتعامل أبو منّة مع كتابات الجيل الفلسطيني الجديد، لكنّه لم يقرّر بهذا الشأن بعد، بيد أنّه يشير إلى أنّه حاول في كتابه، التعبير عن تغير الرواية وفق علاقتها مع مشروع سياسي، ويؤكّد أنّه حالياً لا يوجد مشروع فلسطيني سياسي أو تحرّري أو وطني أو استراتيجية كي ينهي الشعب الفلسطيني الاحتلال، لذلك فنوعية الأدب الموجود اليوم تختلف عن أدب فترة المدّ النضالي، وهذا الاختلاف مهم، ويلفت إلى أنّه لا يقصد توجيه الملامة إلى الكتّاب الجدد بل إلى وجود أزمة سياسية كبيرة تؤثّر على كيفية تجاوب الكتّاب مع الواقع الذي يعيشون فيه، مع غياب فسحة للتحرّر بسبب فشل المشروع السياسي.
وحين كتب عن الرواية الفلسطينية، أراد أن يظهر أنّ الروائيين الأربعة الذين اختارهم (جبرا، كنفاني، حبيبي، سحر خليفة)، يمثّلون مكونات الرواية الفلسطينية ولم يقصد كتابة شاملة عن كل الأدب الفلسطيني، بل إظهار تغيّر الرواية الفلسطينية وعلاقتها بالقضية الفلسطينية بمشروعها مع هؤلاء الكتاب الأربعة.
أمّا عن مدى إمكانية فصل السياسة عن الرواية الفلسطينية، فيقول أبو منّة لـ"العربي الجديد" إنّ كل شيء ممكن، لكن المشكلة أنّ الأفراد يواجهون مشاكل القمع والتهجير ونظاماً استعمارياً يحاول تدمير المجتمع الفلسطيني، مقابل عجز الإنسان الفلسطيني عن الهروب من هذا الواقع وتأثيره على نمط الكتابة ولو بأشكال مختلفة، إضافة إلى اختفاء المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أدّى إلى تبدّل أسلوب الكتابة.
وإن أردنا إعادة العلاقة بين الفرد والمجتمع، لإنتاج جديد للرواية، يعتقد أنّه "ينبغي التفكير بمشروع تحرّري غائب اليوم، حيث حماس من جهة تمثّل مشروعا قمعيا داخليا، ومشروع أسلمة المجتمع الفلسطيني، وهناك مشروع فتح المتخاذل مع الأميركيين والإسرائيليين، الذي يقوّي الاحتلال في الضفة". ويكمل أبو منّة "أنّنا حين نتساءل ماذا يريد الفرد الفلسطيني وأين هو بين هذين المشروعين، نرى أنّه لا وجود لمشروع يعبّر عنه وهذا جزء من الأزمة الفلسطينية".
ينهي أبو منّة كتابه، برواية "باب الشمس" التي كتبها إلياس خوري اللبناني الذي انضمّ إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وعبّر في روايته عن واقع المجتمع والفرد الفلسطيني في مرحلة أوسلو. ويرى أنّه من الطبيعي أن ينشغل الكتّاب العرب بالقضية الفلسطينية وأن يسعوا إلى تغيير ذلك الواقع، كما يؤكّد أبو منّة على أهمية ترجمة الروايات وغيرها من الكتب لأنّها تعبّر عن نوع من التضامن الشعبي الأوروبي والأميركي مع القضية الفلسطينية، ومن المهم جداً أن يستمرّ هذا الأمر ويزداد مع الوقت. ويلفت إلى أنّ الكثير من الروايات التي يتناولها في كتابه، غير مترجمة للإنكليزية، على الرغم من أنّها تساعد على تغيير وجهة نظر العالم الغربي عن الشعب الفلسطيني ومطالبه وثقافته.
ويعتقد أنّ الرواية الفلسطينية كانت في الفترة التي تناولها في كتابه تلعب دوراً عربياً أساسياً، لأنّ الجميع كان يقرأ كنفاني وحبيبي وجبرا، على اعتبارهم كتّاباً فلسطينيين بتأثير عربي، ساهموا في تغيير شكل الإنتاج العربي، بيد أنّ هذه المركزية للرواية الفلسطينية تغيب اليوم عن الساحة العربية، في حين أن الرواية العربية تتطوّر بشكل ملحوظ.
أبو منّة الذي قدّم كتابه مؤخراً في قاعة "موزاييك" بلندن، في ندوة حاورته فيها رازية إقبال، الصحافية في الـ بي بي سي، يعدّ حالياً كتاباً عن المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، لأهميته في الثقافة الغربية والعربية على حدّ سواء وتأثيره على الفكر السياسي ومفهوم القضية الفلسطينية في الغرب، ويحاول في كتابه إظهار وجوه هذا المفكّر المختلفة وفهمها وخصوصاً تنظيره لعلاقة الإمبريالية بالثقافة.
_________________________________
لماذا صاحبة الصبّار؟
يفسّر أبو منّة اختياره سَحر خليفة في كتابه، بأنّ أحداً لم ينتقد المجتمع الفلسطيني اجتماعياً وسياسياً كما تفعل هي، وينوّه إلى أنّ الطريقة الوحيدة لفهمها هي إدراك أنّها ناشطة نسوية اشتراكية، تعتبر أنّ الهزيمة تعود إلى وجود مشاكل كثيرة في المجتمع الفلسطيني، من أهمها اضطهاد المرأة والطبقية الاجتماعية. ويرى أن انتفاضة 1987 تمثل أفق أدب صاحبة رواية "الصبّار"، وتعبّر سياسياً عن نظرتها الروائية.