غسان كنفاني.. نصافحك فلا نشعر أننا في العراء

فلسطين

محمد الأسعد

محمد الأسعد - القسم الثقافي
محمد الأسعد
شاعر وروائي وناقد من فلسطين
08 يوليو 2021
49 عاماً على وفاة غسان كنفاني.. الفكرة ما زالت حية
+ الخط -

تربطني برواية "رجال في الشمس" للشهيد الفلسطيني غسان كنفاني (1936 ــ 1972) ذكرى، أو جُملة ذكريات، منغرسة في الذهن لا تزول بألوانها وأصواتها ومشاهدها ورطوبتها منذ أن عشتها في تلك الأيام، الأيام التي جرت أحداث روايته في أجوائها. الأيام التي كنتُ أرى فيها ــ وأنا لم أغادر مقاعد المدرسة الابتدائية بعد ــ فلسطينيين يجلسون في مقاهي بَصْرة ذلك الزمن العراقية، يساومون مهرّبين، ويتّفقون معهم على أجرٍ مُحدّد، لقاء أخذهم أدلّاء في الطريق إلى حيث لا أعرف، ثم ينهضون ويغادرون. أو أرى ضيوفاً غامضين يجيئون إلى بيتنا من أماكن لم نعرفها بعد، يبيتون ليلةً في انتظار وصول مهرّب، ثم يغادرون مع أوّل خيطٍ من خيوط الفجر إلى حيث لا أعرف أيضاً. 

ولن أعرف، بالطّبع، إلّا لاحقاً أن المكان الذي كان يُفترض أن يقودهم إليه المهربون هو الكويت، وأن روّاد المقاهي هؤلاء والضيوفَ الغامضين هم لاجئون فلسطينيون يتوافدون من مخيّمات الأردن أو لبنان أو سورية، إمّا هرباً من اضّطهاد يتعرّضون له لأنهم لاجئون يزدريهم العابر والمقيم، أو لأنهم يسعون وراء لُقمة عيشٍ لهم ولأطفالهم ولأخوتهم وأخواتهم أولآبائهم وأمّهاتهم.

كانت أسماء هؤلاء المهرّبين ووجوههم شائعةً يعرفها الناس، مثل ذلك المُسمّى "الغضبان"، الذي كان يُقال في أوساط اللاجئين الفلسطينيين إنه ضلّل كثيراً ممّن كانوا يتّخذونه دليلاً، فيسير بهم ليلاً إلى أن يصلوا إلى حيث يشاهدون أضواء نائية، فيُشير إليها ويقول: "تلك هي الكويت على مرمى حجر"، وينسل هارباً ويتركهم يتخبّطون في ليل صحراء لا نهاية له. أو ذلك المُسمّى محمد البهلوان، الشبيه بأحد مصارعي الزورخانات المعروفة كأمكنة تدريب على المصارعة الشعبية في العصر العثماني الآفل، والذي كان الجميع يُشيدون بأمانته، وبأنه لا يترك مَن يتّفقون معه إلّا بعد أن يَطمئنّ إلى أنهم وصلوا إلى مبتغاهم فعلاً.

"ناقدٌ" وحيد ساءل غسّان عن مسؤوليته كقاص: أخته فائزة

بين هؤلاء وأمثالهم، وبين "أبو الخيزران" الذي حاول تهريب الفلسطينيين الثلاثة، أبو قيس ومروان وسعد، في رواية غسّان كنفاني، نسَبٌ حتى وإن لم أسمع باسمه في تلك الأيام، وحتى باتّخاذه خزّان شاحنته الخالي من الماء وسيلةَ تهريبٍ وليس عبور الصحراء سيراً على الأقدام ليلاً، كما كان يفعل الآخرون. هذا النسب هو الذي يُعيدني إلى تلك الأيام، ويذكّرني بما فعله "الغضبان" حين قاد مَن قاد إلى حتفهم بالتوقّف والإشارة إلى أضواء في أفق صحراوي بعيد، والقول للاجئين قادمين من الريف الفلسطيني الخالي من أي صحراء: "تلك مدينة الكويت".

ومدلولُ هذا النسب هو ما فعله حين قاد هؤلاء الثلاثة إلى حتفهم، بأن اتّخذ خزّان شاحنته المغلق عليهم وسيلةَ تهريب، وتوقّف في النقطة الحدودية ليستكمل إجراءات دخوله، ومازحه موظّفو الحدود الذين يعرفونه جيّداً، وأطالوا ممازحته، وحين انطلق بشاحنته وعبَرَ نقطة الحدود، سارع إلى فتح الخزّان، وهُنا فوجئ بأن الفلسطينيين الثلاثة ماتوا اختناقاً، فسحبَهم وألقى بجثثهم في العراء وهو يتساءل بلهجة لومة لائم :"لماذا لم يدقّوا جدران الخزان؟".

إلى هذا الموقف الفاجع اتّجه تحليل النقّاد لاستخلاص دلالته؛ فقيل إن صياغة غسّان لمصير هؤلاء الفلسطينيين كانت صياغة رمزية لمصير الفلسطيني الفاجع على يد "قيادة" عاجزة؛ قيادة مثّلها غسان بسائق الشاحنة المدعو "أبو الخيزران". وممّا يؤكّد هذا، كما رأى إحسان عباس (1920 ــ 2003)، ابن قرية عين غزال في جبل الكرمل، أن هذا السائق كان "خصِيّاً".

لم يتحدّث أحدٌ عن مسؤولية غسّان ــ كاتب الرواية ــ عن نهاية مؤلمة كهذه، واعتبر النقّاد هذه النهاية نتيجةً طبيعية لإهمال سائق الشاحنة، وعدم جرأة الضحايا على دقّ جدران الخزان وهُم يشرفون على الموت اختناقاً، وما تبِع هذا من تأويلات. ولكنّ "ناقداً" واحداً ــ وهذا هو ما أضاف إلى الحدث بُعداً لم يفكّر فيه أحد ــ كتب، أو صرخ بالأحرى، في صحيفة "المحرِّر" اللبنانية (18آذار/ مارس 1963): "يا إلهي... ما أقساك يا غسّان!" عنواناً لمقالة علّق فيها على نهاية الرواية المأساوية. 

هذا "الناقد" هو فائزة، أخت غسّان كنفاني، التي سبق أن صدّر أوّل كتابٍ قصصي نشره عام 1961 تحت عنوان "موت سرير رقم 12" بكلمةِ إهداءٍ لها، أتبعها برسالة خاصة ينوّه فيها، هي التي أدهشها أن يُهدي إليها كتابَه، بفضلها ورعايتها له في بداياته الأدبية، ويختمها بعبارة مؤثّرة يقول فيها: "شددتِ على يدي فنقلتِ إلى شراييني حبّاً افتقدتُه زمناً، ثم بعث فيّ شعوراً بأنني لستُ في العراء".

ربما انطلاقاً من هذه العلاقة الأخوية الحميمة صرختْ فائزة تلك الصرخة، وكتبت: "إنني لأعجب أيها العزيز كيف تصدُر هذه القسوة البالغة عنك، أنت المرهف الرقيق الفنان الطيّب.. لو لم تكن أخي لتخيّلتُ كاتب القصة 'عشماوياً' بجدارة لا يُبالي بأرواح يطردها من أجسام أصحابها (...) ولكنّكَ لست هذا أبداً.. إنّك العكس تماماً.. إن في وجهك صفاءً وإنسانية وفي قلبك حباً يسع الجميع (...)، فمن أين لك هذا العنف في أفكارك؟".

وتختم مقالتها بالقول: "أنت تعرف رأيي بهذه الأمور من القديم.. وأنت تعرف أنني أتلهّف لقراءة قصّة لك كلُّها تفاؤل وأمل واستبشار.. وأنني أطلب من الله أن يمدّ في عمري لأقرأ مثل هذا الكتاب لك.. وإنّي لَواثقةٌ جداً جداً بأنه سيفوق كلّ ما كتبت رغم روعة ما كتبتَ..".

مهمّة الفن احترام الحياة وبثّها حتى في قَرن فلفل

هل هذا عِتاب؟ هل هذا توبيخ؟ أم هو تذكيرٌ بمبدأٍ فنّي غاب عن أذهان النقّاد؟ لا أدري، ولكنّه يُذكّرني بذلك المبدأ الذي يعتقد الشاعر الياباني ماتسو باشو ــ مبتكرُ فنّ قصيدة الهايكو في القرن السابع عشر ــ أنه مبدأ الفنّ السليم: ليس على الشاعر أن يقتل، بل أن يبثّ الحياة في الأشياء والكائنات. عَرض عليه أحد تلاميذه قصيدة هايكو من تأليفه تقول:
"اقتلعْ جناحَيْ يعسوب
تحصلْ
على قَرن فلفلٍ أخضرْ"،
فارتاع باشو، وقال له: "أنت بهذا تقتل اليعسوب. هذه ليست هايكو، هذه ليست شِعراً".
قال التلميذ: "إذاً، ماهو الصواب؟".
قال باشو، "الصواب أن تقول:
أضفْ جناحين 
إلى قَرن فلفلٍ أخضر
تحصلْ على يعسوبْ".

هل كان على غسّان أن يبثّ الحياة في أبطال قصّته الفلسطينيين الثلاثة بدلَ أن يسجنهم في خزّان ماء، ويسحبهم أبو الخيزران أمواتاً؟ وبدل أن يروّع أخته فائزة التي رأت حتّى في هذا الخيال قسوةً لا تَليق بفنّان رقيق في قلبه حبُّ يسع الجميع؟ هذا سؤالٌ يظلّ معلقاً، يُطالب بنظرة جدّية في تقانة الفن والأدب وغايته بما يتجاوز الشائع من صوَر يحتشد بها تراثٌ أدبي وفني هائلٌ وصلَ الأمر بأصحابه، ليس إلى تصوير المآسي المروّعة مثل المأساة التي يصوّرها غسّان كنفاني فحسب، بل إلى تمجيدها في غالب الأحيان، في ظلّ غيابٍ نقديّ شبه تامّ عن أي تساؤل حول قيَم الإحياء شبه الغائبة، عن مهمّة الفن الحقيقية التي يُشير إليها باشو، أي احترام الحياة وبثّها حتى في قَرن فلفل تُضاف إليه أجنحة تحوّله إلى فراشةٍ تطير في الحقول.


*شاعر وروائي وناقد من فلسطين

موقف
التحديثات الحية

ذات صلة

الصورة
الدكتورة فيحاء عبد الهادي خلال حديثها لـ"العربي الجديد"

سياسة

تروي الباحثة الفلسطينية الدكتورة فيحاء عبد الهادي، في مقابلة مع "العربي الجديد" من الدوحة، فصولاً من سيرة المرأة الفلسطينية، وهي المتخصصة في هذا الشأن.
الصورة

مجتمع

بين ركام عمارات سكنية دمّرتها غارات إسرائيلية في غرب مدينة غزة، تجمّع فلسطينيون لرفع كتلة إسمنتية كبيرة أمام ثلاثة مسعفين سحبوا من المكان جثة هامدة. ويصرخ شاب باكياً "لماذا؟ لم نفعل شيئا يا الله".
الصورة
والدة الشهيد قيس أمل شجاعية (العربي الجديد)

مجتمع

لم يُرد الشهيد قيس شجاعية أن يترك سلاحه في أرض المعركة، تقول والدته أمل شجاعية لـ"العربي الجديد".
الصورة
الآلاف يتظاهرون في غزة نصرة للأقصى (عبد الحكيم أبو رياش/ العربي الجديد)

سياسة

شارك آلاف الفلسطينيين، اليوم الجمعة، في تظاهرة دعت إليها لجنة القوى الوطنية والإسلامية في ميدان فلسطين وسط مدينة غزة، رفضاً للاعتداءات الإسرائيلية على الأقصى والمسجد الأقصى ولتأكيد رفض مخطط "ذبح القرابين".
المساهمون