بريطانيا تعود إلى الجزيرة.. أوروبا تتراجع إلى الوراء

24 يونيو 2016
عودة صريحة إلى زمن الهويات القاتلة (Getty)
+ الخط -

صدمة في عموم أوروبا والعالم، حيال نتيجة الاستفتاء البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وحتى فجر اليوم الجمعة، لم يكن أحد يتوقع فوز أنصار الانسحاب من أوروبا، بل على العكس كانت التقديرات منتصف ليل أمس، تشير إلى نجاح أنصار المعسكر الاتحادي، حتى إن بعض الشخصيات الداعمة للانسحاب، أعلنت عن خسارة الاستفتاء.

أفاق العالم على قرار 52 في المائة من الشعب البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهو قرار نهائي لا عودة عنه، رغم أنه سيعرض على مجلس العموم البريطاني، ليقول رأيه فيه، قبل تقديم طلب الانسحاب رسمياً من الاتحاد الأوروبي.

قرار بريطانيا نهائي وسيترجم قبل نهاية العام الحالي، إلى مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي على أساس المادة 50 من اتفاقية لشبونة 2009، وستتركز المفاوضات على إجراءات الطلاق التي تنتهي في غضون عامين، ولكن عملية الانسحاب تحتاج إلى فترة انتقالية قد تصل إلى خمس سنوات، من أجل تصفية إرث المرحلة الماضية التي بدأت بانضمام بريطانيا إلى الاتحاد عام 1973.

ولكن من المرجح أن تسرّع فرنسا وألمانيا من مفاوضات الانسحاب، من أجل معاقبة بريطانيا وإعطاء درس للدول الأخرى، التي يراودها حلم الانسحاب من الاتحاد.

التداعيات المباشرة، كما هو واضح، ستكون في المدى المنظور اقتصادية، ولكن نتائج الاستفتاء ستترجم نفسها على المستوى السياسي بسرعة أيضاً، وهذا ما لاحظناه هذا الصباح من خلال مسارعة زعماء اليمين العنصري المتطرف في فرنسا وهولندا إلى استثمار الحدث، ولم يخفوا ترحيبهم وابتهاجهم بالخطوة، بوصفها انتصارا لمسألة الهوية الأوروبية التي تعني في العمق كراهية للأجانب جميعا، ماعد الأغنياء منهم.



هي كراهية قائمة على رفض للمهاجرين من شتى الأعراق، العربي والآسيوي والأوروبي الشرقي، كالقادمين من رومانيا وبولونيا الذين جرى استخدامهم كأوراق دعاية انتخابية من طرف معسكر الخروج من أوروبا، وهي ضد الاختلاط والانفتاح ورفع الحدود بين الدول، بل عودة إلى زمن الهويات والانغلاق، في وقت تسود العالم موجة عاتية من الخوف منذ هجمات 11 سبتمبر 2011، التي أسست لنظرية الأمن أولاً، وأعلت صدام الحضارات فوق حوار الثقافات.

بريطانيا اليوم، تقدم المثال السيئ ليس عن أوروبا فحسب، بل عن العالم ككل، فهذه الإمبراطورية التي تجاوزت حدود الجزيرة الضيقة منذ قرون، وامتدت على مساحات شاسعة لا تغيب عنها الشمس، وانفتحت على شعوب بعيدة، ها هي تعود إلى إغلاق الحدود على نفسها، ضاربة بعرض الحائط كل الإنجازات التي حققتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، على صعيد بناء شخصية أوروبية جديدة، ودولة فيدرالية مثال للاندماج والتعاون الكامل اقتصادياً وثقافياً وأمنياً.

الخطير في الأمر أن الخطوة البريطانية سوف تلعب دور السابقة في أوروبا وخارجها لتقديم الذريعة لأنصار تفكيك الكيانات، وإعادة الحدود التي اسقطتها العولمة منذ بداية الألفية الحالية، وستشكل برنامجا ليس لليمين العنصري فقط، بل لليمين التقليدي الذي له حضور قوي في بلدان أوروبية أساسية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، ولذا ستنتقل العدوى خلال زمن وجيز إلى بعض بلدان أوروبا، وخصوصا التي تواجه تحديات أمنية واقتصادية، وأكثر البلدان المرشحة هي فرنسا التي تستعد لانتخابات تشريعية ورئاسية خلال أقل من عام، ومن غير المستبعد أن يكون العنوان الرئيسي للحملة هو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي.

أوروبا الموحدة بدأت بتجمع اقتصادي من ست دول وتطورت حتى وصلت إلى الشكل الحالي، وعلى امتداد علاقة بريطانيا بالاتحاد حظيت بمعاملة خاصة، هي داخل الاتحاد لكنها تسير وحدها، ومع ذلك اختارت اليوم الابتعاد، ورغم أن حملة الخروج قامت على الاقتصاد، فإن أحدا لا يستطيع أن يغفل عامل الأمن الذي لعب دورا أساسيا للترويج لخطاب الانسحاب، فأكثر من خبير وسياسي تحدثوا أن على بريطانيا أن تغلق حدودها اليوم، وأن تضحي اقتصاديا لتضمن أمنها كليا، ولكن هذه النظرية تبدو خرافة، مثلها مثل مفاجآت كثيرة ظهرت على هامش الانتخابات، أبرزها تصويت بريطانيين من أصول مهاجرة لصالح الانسحاب من أجل الحد من هجرة الأجانب.

انسحاب بريطانيا من الاتحاد عودة صريحة إلى زمن الهويات القاتلة، ويبدو أن هذه الرياح ستكون أقوى من تلك التي جاءت في الشهر الماضي بالبريطاني من أصل باكستاني صادق خان، عمدة لبلدية لندن.