برهان كركوتلي.. حكواتي الثورة ورسامها

26 ديسمبر 2014
+ الخط -
ليس من اليسير تصنيف تجربة التشكيلي الراحل برهان كركوتلي (1932 – 2003)، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله الحادية عشر. فحتى لو غلبت صفة "الملتزم" على أغلب أعماله؛ إلا أنها تقترب، بشكل أو بآخر، من مفهوم الرسوم المصورة. وقد تبدو أحياناً ساخرة؛ ما يجعلها تتقاطع مع فن الكاريكاتير. وهي في الوقت نفسه تحمل شحنة فطرية تجعلها تقترب من الرسوم الشعبية، لا سيما رسوم أبو صبحي التيناوي. قد تكون هذه التصنيفات مجتمعة هي هوية كركوتلي المميزة.

الفنان الذي رسم لفلسطين أكثر من أي موضوع آخر، لدرجة أن بعضهم كان يظنّه فلسطينياً، هو خير مثال على فكرة الفنان الملتزم. فالقضية الفلسطنية بالنسبة للفنان هي المثال الأوضح على انعدام العدالة الإنسانية، ولا تصبح العدالة حقيقية إلا حين يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المسلوبة.

بهذا المعنى، توسع التزام كركوتلي السياسي ليناصر حركات التحرر في العالم، فقد ربطته علاقات متنية، أثناء عمله في الصحافة المغربية، مع نشطاء من الجزائر، كانوا يطبعون منشوراتهم ضد المحتل الفرنسي، سرّاً، في المغرب، إضافة إلى نضاله مع رفاقه من اليسار المغربي ضد استبداد الملكية وتواجد القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد: "إن الكفاح السياسي الثوري يحمل ذات الجمال الذي نراه في عيون إمرأة جميلة. إنه الجانب الآخر في جمال الثورة؛ لأن الثورة هي الحلم لتحقيق عالم إنساني جميل". يصف الفنان علاقته مع الكفاح السياسي.

الثورة في المكسيك أيضاً كانت محط اهتمام الفنان. وقد يعود الفضل في ذلك إلى إعجابه بالفن المكسيكي الثوري، لا سيما رسوم ديفيد سوريكوس، الذي رسم لثورة بلاده. لذلك، لا نستغرب أن يجمع الفنان في رسم واحد، يعود إلى عام 1984، بين الثائر المكسيكي زاباتا وبين الثائر الفلسطيني عبد القادر الحسيني، فيجعلهما يتقاسمان الملامح القاسية ذاتها.

هذا الرسم المنفذ باستخدام اللونين الأبيض والأسود، التقنية المعتمدة في أغلب رسوم الكركوتلي، يتقاطع مع رسومه الأخرى المندرجة تحت مفهوم الملصق السياسي، من حيث بساطة الأشكال والعناصر الإنسانية المختزلة، إضافة إلى الموتيفات النباتية، وأحياناً الحيوانية، التي تزين الفضاءات الفارغة في لوحته، كما في رسمٍ يعود إلى نفس الفترة حيث تبرز في البعد الأول للعمل امرأة بالزي الفلسطيني التقليدي، تحمل بندقيةً على ظهرها، يصطف خلفها، على شكل نسقٍ، نسوة يحملن جرار الماء. أما الفضاء المتبقي من اللوحة؛ فيختار كركوتلي تزينه بالعصافير، عنصر الفنان المفضل.

على الرغم من ارتباط فن كركوتلي بقضايا التحرر في العالم، إلا أن هذا لم يمنعه من إنتاج رسوم تحمل شكلاً تعبيرياً مختلفاً كما في رسمٍ تحت عنوان "صباح الخير"، حيث نشاهد أربعة رجال يحملون الحقائب ويتبادلون التحية رافعين قبعاتهم السوداء، يتوزعون على ممرٍ أبيض يفصل بين نسقين من الحجرات المرقمة، كزنزانة السجن. يطل من هذه الحجرات رؤوس ساكينها ليراقبوا بصمت مشهد تبادل التحية.

تبدو اللوحة غريبة، ليس من جهة ابتعادها عن خط كركوتلي السياسي، ولكن أيضاً من ناحية الأسلوب. لعله هنا يقترب، على الرغم من الشحنة الفطرية الواضحة، من الرسوم الساخرة للتعبيري الألماني جورج غروز.

من ألمانيا التي توفي فيها الفنان نعود إلى دمشق، مدينته التي ولد وكبر في أحيائها العريقة، وفيها تكوَّن وعيه ومداركه الجمالية الأولى. لم يتخلّ كركوتلي طيلة سنواته الصعبة في المهجر عن دمشقيته، ولم ينعكس ذلك فقط في رسومه، بل أيضاً في عمله كحكواتي؛ كأن الرسم لا يكفيه ليحكي قصص غرامه مع هذه المدينة.

عن علاقته بدمشق، يقول الفنان: "كان يسري في كياني شيء من الارتياح العميق وأنا أتنزه طفلاً في الأحياء والأسواق الشعبية. كان يحلو لي زيارة المسجد الأموي وتأمل زخارفه، كذلك الذهاب إلى سوق الحميدية وتأمل الناس كيف يتكلمون أو يشترون حاجياتهم".

لقد كانت علاقة برهان كركوتلي مع دمشق علاقة حسّية عاطفية بامتياز، بينما ارتبط بفلسطين، كمجمل أبناء جيله من الفنانين والمثقفين العرب، ببعدها التحرري والقومي؛ هذه العلاقة التي أصبحت بالنسبة للأجيال اللاحقة نقطة علام في معنى الفنان السياسي الملتزم.

المساهمون