يصعب اختزال السيرتين الحياتية والمهنيّة للسينمائي اللبناني برهان علوية (1941) بكلماتٍ قليلة.
فالسيرتان، اللتان تتداخل إحداهما بالأخرى، مرتبطتان في الوقت نفسه بسيرةِ بلدٍ ومدينةٍ ومجتمعٍ وناس، وبسيرة سينما غير متمكّنة من التحوّل إلى صناعة متكاملة، رغم وفرة الأفلام المُنْجَزة في تاريخها الطويل، المتَّفَق على ولادته عام 1929، مع "مغامرات الياس مبروك" للإيطالي جوردانو بيدوتي. تاريخٌ ممتد على 90 عامًا مليئًا بتبدّلات لن تكون كلّها إيجابية، وبمسارات مرتبكة تشهد، في فترات قليلة، هدوءًا حياتيًا ملتبسًا، وسكينةً اجتماعيةً غامضة، من دون تناسي الحراك الثقافي ـ الفني، اللبناني والعربي، في ما يُعرف بـ"الفترة الذهبية لبيروت"، تلك الممتدة من نهاية خمسينيات القرن العشرين إلى منتصف سبعينياته، أي عشية اندلاع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990).
لبرهان علوية فضلٌ كبيرٌ في تغيير سياق نتاجٍ سينمائيّ لبناني، بمشاركته الفعّالة، برِفْقَة زملاء وأصدقاء سينمائيين عديدين، في صوغ منهجٍ فني ـ ثقافي ـ جمالي ينتفض على السائد حينها (خمسينيات القرن الفائت وستينياته)، كي يصنع صورة سينمائية عن واقعٍ وعيشٍ يستلّان حكاياتهما من يوميات الناس، في مدينة تشهد غليانًا متنوّعًا في الإنتاجِ المعرفي والحراكِ السياسي والالتزامِ العقائدي والحماستين الشبابية والطالبية، وهذا كلّه منبثقٌ من لحظتين تاريخيتين متتاليتين، سيدخل لبنان واللبنانيون بعدهما في مرحلة أخرى مختلفة: اتفاق القاهرة (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1969) بين الحكومة اللبنانية و"منظّمة التحرير الفلسطينية"، تمنح الأولى للثانية بموجبه حرية "الكفاح المسلّح" ضد إسرائيل من جنوب لبنان، وإنْ تحت مُسمّى ديبلوماسي يقول بـ"تنظيم الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان"؛ و"أيلول الأسود" (17 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 1970)، الذي يؤدّي إلى تدفّق مدنيين ومسلّحين فلسطينيين كثيرين إلى لبنان من الأردن، بعد المعارك الضارية التي تشنّها السلطات الأردنية ضد السلاح الفلسطيني في المملكة.
برهان علوية، مع سينمائيين مُشاركين في صناعة ما يُعرف باسم "السينما البديلة"، سيكون شاهدًا على التحوّلات تلك، وفاعلاً في اشتغالاته السينمائية، الموزّعة مواضيعُها على لبنان وفلسطين ومصر وحرب الخليج الأولى (2 أغسطس/ آب 1990 ـ 28 فبراير/ شباط 1991)، ومُحرِّضًا على إثارة التفكير وعلى إعمال العقل والتأمّل بعناوين أساسية، كالحرب والذاكرة والصراع والهوية والمنفى والعلاقات الإنسانية وبيروت، وغيرها من تساؤلات تُشكِّل عَصَب سينماه، وفضاءَها الثقافي والأخلاقي والإنساني.
(...) يمرّ وقتٌ قصير على عودته إلى بيروت، فتندلع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، وتشتعل المدينة بالغضب والخراب والانكسار والموت. فبرهان علوية، في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، يُساهم في تشكيل "السينما البديلة"، مع سينمائيين لبنانيين آخرين، ستُصبح السينما اللبنانية معهم "مختلفة، شكلاً ومضمونًا". فهي ملتزمة الفرد والمجتمع، تنزل إلى الشارع كي تلتقط نبض الناس وحياة المجتمع والغليان الحاصل في تلك الفترة، في شؤون العيش اليومي. سينما تقرأ يوميات هؤلاء، وتنشغل بأسئلتهم ومشاكلهم وتأمّلاتهم ورغباتهم. سينما يريد صانعوها أن تكون مرآة حقيقية تنعكس عليها المدينة وحكاياتها، وناس المدينة وحكاياتهم، ومجتمع المدينة وتفاصيله وتبدّلاته ومساراته.
لكن علوية ينفي صفة "المحلية" اللبنانية عن هذه "السينما البديلة"، لاعتباره إياها عربية أيضًا: "الأفلام العربية كلّها، التي نسمع بها الآن، والتي تمنح السينما العربية فرصة للحضور في المحافل العربية والدولية، هي سينما بديلة أو جديدة"، مُشيرًا إلى أن "أيام السينما التي عرفناها قديمًا ولّت، وكانت بداية احتضارها منذ أكثر من ربع قرن (أي منذ الربع الأول من سبعينيات القرن العشرين)"، مُضيفًا أن "أهمية سينما اليوم، أو سينما الغد، تكمن في أنها تنطلق دائمًا من الواقع المَعيش". بمعنى آخر، هذه السينما "تنضمّ إلى قافلة الثقافة العربية".
لم تخرج أفلام برهان علوية على هذا الإطار: سينما رافضة الانصياع لتركيبة الأعمال التي صنعها سينمائيون عرب عديدون، في المرحلة الممتدة بين أربعينيات القرن العشرين وستينياته. ما يُريده علوية ورفاق دربه، يتمثّل في سينما غير خاضعة للشروط الاستهلاكية التجارية البحتة، وتقول بالشكل والمضمون ما يعتمل داخل المجتمع في لبنان والعالم العربي، من غليان في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد. وهذا غليان إنساني أولاً وأخيرًا، يمنح السينما مادة درامية زاخرة بالتساؤلات والعناوين المختلفة. سينما تحاول أن تجعل من الشكل المتجدّد، تصويرًا وتوليفًا وتركيبًا بصريًا ومعالجة درامية وإدارة ممثلين وبناء شخصيات، لغة تتلاءم والمتطلبات الفنية الجديدة التي يرغب هؤلاء السينمائيون المجدّدون في طرحها والعمل وفقًا لها ومعها.
(*) مقاطع من كتيِّب يُصدره "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، بمناسبة تكريم المخرج اللبناني برهان علوية في الدورة الـ21، المُقامة بين 10 و16 إبريل/ نيسان 2019.
لبرهان علوية فضلٌ كبيرٌ في تغيير سياق نتاجٍ سينمائيّ لبناني، بمشاركته الفعّالة، برِفْقَة زملاء وأصدقاء سينمائيين عديدين، في صوغ منهجٍ فني ـ ثقافي ـ جمالي ينتفض على السائد حينها (خمسينيات القرن الفائت وستينياته)، كي يصنع صورة سينمائية عن واقعٍ وعيشٍ يستلّان حكاياتهما من يوميات الناس، في مدينة تشهد غليانًا متنوّعًا في الإنتاجِ المعرفي والحراكِ السياسي والالتزامِ العقائدي والحماستين الشبابية والطالبية، وهذا كلّه منبثقٌ من لحظتين تاريخيتين متتاليتين، سيدخل لبنان واللبنانيون بعدهما في مرحلة أخرى مختلفة: اتفاق القاهرة (3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1969) بين الحكومة اللبنانية و"منظّمة التحرير الفلسطينية"، تمنح الأولى للثانية بموجبه حرية "الكفاح المسلّح" ضد إسرائيل من جنوب لبنان، وإنْ تحت مُسمّى ديبلوماسي يقول بـ"تنظيم الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان"؛ و"أيلول الأسود" (17 ـ 27 سبتمبر/ أيلول 1970)، الذي يؤدّي إلى تدفّق مدنيين ومسلّحين فلسطينيين كثيرين إلى لبنان من الأردن، بعد المعارك الضارية التي تشنّها السلطات الأردنية ضد السلاح الفلسطيني في المملكة.
برهان علوية، مع سينمائيين مُشاركين في صناعة ما يُعرف باسم "السينما البديلة"، سيكون شاهدًا على التحوّلات تلك، وفاعلاً في اشتغالاته السينمائية، الموزّعة مواضيعُها على لبنان وفلسطين ومصر وحرب الخليج الأولى (2 أغسطس/ آب 1990 ـ 28 فبراير/ شباط 1991)، ومُحرِّضًا على إثارة التفكير وعلى إعمال العقل والتأمّل بعناوين أساسية، كالحرب والذاكرة والصراع والهوية والمنفى والعلاقات الإنسانية وبيروت، وغيرها من تساؤلات تُشكِّل عَصَب سينماه، وفضاءَها الثقافي والأخلاقي والإنساني.
(...) يمرّ وقتٌ قصير على عودته إلى بيروت، فتندلع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، وتشتعل المدينة بالغضب والخراب والانكسار والموت. فبرهان علوية، في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين، يُساهم في تشكيل "السينما البديلة"، مع سينمائيين لبنانيين آخرين، ستُصبح السينما اللبنانية معهم "مختلفة، شكلاً ومضمونًا". فهي ملتزمة الفرد والمجتمع، تنزل إلى الشارع كي تلتقط نبض الناس وحياة المجتمع والغليان الحاصل في تلك الفترة، في شؤون العيش اليومي. سينما تقرأ يوميات هؤلاء، وتنشغل بأسئلتهم ومشاكلهم وتأمّلاتهم ورغباتهم. سينما يريد صانعوها أن تكون مرآة حقيقية تنعكس عليها المدينة وحكاياتها، وناس المدينة وحكاياتهم، ومجتمع المدينة وتفاصيله وتبدّلاته ومساراته.
لكن علوية ينفي صفة "المحلية" اللبنانية عن هذه "السينما البديلة"، لاعتباره إياها عربية أيضًا: "الأفلام العربية كلّها، التي نسمع بها الآن، والتي تمنح السينما العربية فرصة للحضور في المحافل العربية والدولية، هي سينما بديلة أو جديدة"، مُشيرًا إلى أن "أيام السينما التي عرفناها قديمًا ولّت، وكانت بداية احتضارها منذ أكثر من ربع قرن (أي منذ الربع الأول من سبعينيات القرن العشرين)"، مُضيفًا أن "أهمية سينما اليوم، أو سينما الغد، تكمن في أنها تنطلق دائمًا من الواقع المَعيش". بمعنى آخر، هذه السينما "تنضمّ إلى قافلة الثقافة العربية".
لم تخرج أفلام برهان علوية على هذا الإطار: سينما رافضة الانصياع لتركيبة الأعمال التي صنعها سينمائيون عرب عديدون، في المرحلة الممتدة بين أربعينيات القرن العشرين وستينياته. ما يُريده علوية ورفاق دربه، يتمثّل في سينما غير خاضعة للشروط الاستهلاكية التجارية البحتة، وتقول بالشكل والمضمون ما يعتمل داخل المجتمع في لبنان والعالم العربي، من غليان في الثقافة والاجتماع والسياسة والاقتصاد. وهذا غليان إنساني أولاً وأخيرًا، يمنح السينما مادة درامية زاخرة بالتساؤلات والعناوين المختلفة. سينما تحاول أن تجعل من الشكل المتجدّد، تصويرًا وتوليفًا وتركيبًا بصريًا ومعالجة درامية وإدارة ممثلين وبناء شخصيات، لغة تتلاءم والمتطلبات الفنية الجديدة التي يرغب هؤلاء السينمائيون المجدّدون في طرحها والعمل وفقًا لها ومعها.
(*) مقاطع من كتيِّب يُصدره "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، بمناسبة تكريم المخرج اللبناني برهان علوية في الدورة الـ21، المُقامة بين 10 و16 إبريل/ نيسان 2019.