برفيريوس.. كنيسة القدّيس في ظلال المسجد

غزة

عبد الرحمن الطهراوي

avata
عبد الرحمن الطهراوي
27 مارس 2015
+ الخط -
يبدو المشهد في ذروة جماله، عندما تتسلّل أشعّة الشمس الذهبية على بيوت المسلمين والمسيحيين المتراصّة حول المعلَمَين الدينيين على السواء، متناغمةً مع تراتيل الأذان الصادح من أعلى مئذنة المسجد القديم، وأصوات أجراس الكنيسة السعيدة، رغم سنوات الحزن التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي.

من يعرف الكنيسة وحكاياتها أكثر من حارسها، تحديداً إذا كان قد ورث الوظيفة عن والده وجدّه؟
قرب الباب الرئيسي للكنيسة، يجلس عصام قرمش على كرسي خشبي يستقبل دفء الشمس، مبتسماً للمؤمنين وهم في طريقهم لأداء الصلاة، فهو لم يعد حارساً، ولكنّه لا يستطيع مفارقة المكان الذي جلس فيه أكثر من عقد من الزمن. كما لا يكتمل مشهد الكنيسة من دونه، ولا يشعر قاصدو الكنيسة بأنهم في المكان الصحيح إلا بالمرور بالعمّ قرمش.

عمل قرمش منذ عام 1991 حتى قبل عامين، حارساً للكنيسة وممتلكاتها، بعدما كان جدّه كلّف بالإشراف على سلامة الكنيسة قبل نحو ستّة عقود، وكان يتّخذ من أحد أركان الكنيسة مأوى له ولعائلته، وحينما توفّي، انتقلت المهمّة إلى والده، ومن ثم إليه مع إخوانه الخمسة.

ويشيد قرمش (45 عاماً) بالعلاقات الإيجابية القائمة بين المسلم وجاره المسيحي، والتواصل الاجتماعي القويّ بين الطرفين، مبيناً أنه عاش برفقة عائلته داخل كنسية القديس برفيريوس لأكثر من عشرين عاماً، لم يتعرّض خلالها لأيّ إزعاج، وأنّ هذا السلام بين أهل الجوار هو بمثابة حلم يقظة جميل، إذ يجيد الحارس، أكثر من غيره، أحلام اليقظة.


ويشير إلى أنّ التعايش بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، وتحديداً قطاع غزة، ظاهرة فريدة يجب أن تمدحها كتب التاريخ، فالحياة هنا تتشابه أكثر مما تتباين، وكلانا يعاني من الاحتلال، الذي لا يفرّق بين هذا أو ذاك، فالجميع بذل ماله ودماءه من أجل الدفاع عن الأرض، ونزع الحرية والاستقلال.

لم يقطع حديثنا مع قرمش، إلا تحية الصباح التي ألقتها جارته، تحفة الخوري، العائدة للتوّ من السوق الشعبي الكبير لمدينة غزّة، الذي لا يبعد عن المعلمين الدينيين (المسجد والكنيسة) إلا بضعة أمتار.

وتقول خوري لـ"العربي الجديد": "نمارس حياتنا بشكل طبيعي بدون قيود أو تمييز، نحن هنا مواطنون فلسطينيون، نتقاسم الأفراح والأحزان، نتشارك في مختلف المناسبات"، مشيرة إلى أنّ أكثر ما يبهجها هي أجواء شهر رمضان، والتهاني والهدايا التي تتلقّاها من أصدقائها المسلمين بمناسبة الأعياد المسيحية.

وتضيف خوري: "نتشارك في الدم والمصير، والتصاق المسجد بالكنيسة أبرز برهان على التلاحم الرائع الذي يجمع المسيحيين والمسلمين، ودليل قوي على عدم التفرقة بين الأديان"، مستنكرة محاولات الاحتلال الإسرائيلي المتكرّرة لضرب هذا النسيج الاجتماعي.

تمدح الخوري التعامل الإيجابي الذي تلتزم به كافة الحكومات التي تدير شؤون قطاع غزّة: "منذ ولدت في هذا الحي وحتى الآن، لم أشعر إطلاقاً بأيّ ظلم من أيّ طرف مسؤول، يتعامل معنا الجميع بشكل عادل، ويخضع الجميع للقانون ويلتزم به".

ولفتت خوري إلى أنّ الفلسطينيين المسيحيين لعبوا دوراً مميّزاً على مدار التاريخ، ولهم دور فاعل في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية، بجانب دورهم البارز في الصمود على أرض فلسطين ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي.

تسكن خوري في الجهة الغربية لمسجد "كاتب ولاية"، الذي بُني أيّام حكم السلطان الناصر محمد بن قلاوون الثالث عام 1309، وبعد سنوات تعرّض للهدم، قبل أن يقدم أحمد بيك الملقب بـ"كاتب ولاية"، الذي كان يرسل الرسائل في زمن العصر العثماني إلى المدن، على إعادة بنائه عام 1586.

أرض الديانات
درجت العادة في تاريخ الشعوب أن يحاول أتباع دين معيّن إثر سيطرتهم على منطقة جديدة إخضاع بشرها وحجرها لهم، ولكنّ ما حدث في غزّة يعتبر استثناءً، إذ لم يحوّل المسلمون الكنيسة إلى مسجد، ولم يحاول المسيحيون منع بناء المسجد.

المشرف على المسجد، الحاج صلاح البنا، اعتبر التصاق المسجد بالكنيسة نموذجاً حيّاً على التعايش الآمن والتسامح بين السكّان المسلمين ومختلف الأديان، وفق ما أكّدت عليه تعاليم الدين الإسلامي، مشيداً بحالة الترابط الاجتماعي القوي التي تجمع بين المسلمين والمسيحيين في قطاع غزّة، رغم كافة التحدّيات.

ويقول البنا لـ"العربي الجديد"، إنّ "حالة التوأمة بين المسجد والكنيسة، لها دلالات عميقة على أنّ أرض فلسطين كانت موطناً لمختلف الأديان، التي عاش أفرادها من دون مضايقات، إلى أن جاء الاحتلال الذي هجّر السكّان بالقوّة، وفرض ظلمه على الجميع، الجميع يعاني من الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزّة، وكلا الطرفين يتبادلان الاحترام، مثلاً من المستحيل أن يأكل مسيحي أمام جاره المسلم أثناء شهر رمضان، بل تزدهر الزيارات الاجتماعية بين الطرفين خلال الشهر المبارك".

بين الماضي والحاضر
تعدّ كنسية الروم الأرثوذكس من أقدم المعالم الأثرية المسيحية في قطاع غزّة، ودشّنت في البداية باسم كنيسة "أفدوكسيانا" نسبةً إلى الإمبراطورة "أفدوكسيا"، وبعد موت القديس سمّيت باسم كنيسة "القديس برفيريوس".

وتبلغ مساحة الكنيسة الأثرية، التي استغرق بناؤها خمس سنوات من عام 402 وحتى عام 407 ميلادية، نحو 216 متراً مربّعاً، ويوجد بجوارها مقبرة على مساحة 600 متر مربّع تقريباً، تحتوي على رفات القدّيس برفيريوس.


وينقسم المسيحيون في قطاع غزّة إلى ثلاثة أقسام، أوّلهم من ولد على أرض غزّة، وهم الفئة الأكبر، والقسم الثاني من هاجروا من المدن الفلسطينية التي احتلّتها إسرائيل في نكبة عام 1984، والقسم الثالث يضمّ خمس عائلات عادت مع الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى غزّة مع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994.

ويبلغ عدد السكان المسيحيين في قطاع غزّة، في الوقت الجاري، نحو 1300 شخص، موزّعين على ثلاث طوائف، اللاتينية والأرثوذكسية والمعمدانية. وتعدّ عائلات الترزي والخوري والصايغ وسابا والصراف والطويل وفرح، من أشهر العائلات المسيحية في غزة، والتي يسكن غالبيتها في مختلف أحياء مدينة غزّة.

مسؤول العلاقات العامّة في كنسية برفيريوس، كامل عيّاد، يشير إلى أنّ أعداد المسيحيين في قطاع غزّة تناقصت خلال السنوات السبع الماضية من 3500 إلى 1300، وذلك نتيجة للحصار الإسرائيلي وتدهور الأوضاع الاقتصادية في غزّة، الأمر الذي دفع العديد من العائلات والشبان إلى الهجرة. ويضمّ قطاع غزّة خمس مدارس يديرها مسيحيون، ولكنّها تفتح أبوابها لجميع فئات المجتمع، وهي مدرسة العائلة المقدّسة ومدرسة البطريركية اللاتينية والروم الأرثوذكس ومدرسة البطريركية اللاتينية وروضة راهبات المحبّة.

ويضيف عيّاد، أنّ المسيحيين في غزّة يمارسون حياتهم اليومية بشكل طبيعي، فيوجد عدة مؤسسات تخضع لإشرافهم، كجمعية اتحاد الكنائس المسيحية، والتي تقدّم جملة كبيرة من الخدمات، كالتعليم المهني وبرامج مساعدة الأسر الفقيرة والدعم الصحي لأفراد المجتمع. ويوجد في غزة جمعية الشبان المسيحية، التي تأسّست عام 1952، وتنظّم العديد من الأنشطة الثقافية والتربوية، بجانب برامج الخدمات الاجتماعية والدعم النفسي، ويوجد مستشفى الهلال العربي الذي يجاور كنيسة المعمدانية القديمة، وكذلك يوجد أربع كنائس.

ويشدّد عياد على أن المسلمين والمسيحيين يتّحدون في كافّة مجالات الحياة، وكلاهما ينتظر اللحظة التي يزول فيها الاحتلال الإسرائيلي، الذي لا يفرّق في استهدافاته ومضايقاته بين المسلم والمسيحي، مبيّناً أنّ نحو خمسة مسيحيين استشهدوا خلال السنوات الستّ الماضية، نتيجة لاعتداءات الاحتلال المتكرّرة على قطاع غزّة.

وبرز خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزّة، صيف 2014، مدى الترابط الإنساني الذي يجمع الطرفين، إذ فتحت كنيسة القديس برفيريوس أبوابها للنازحين الصائمين، الذين هربوا من قصف الاحتلال العشوائي لبيوتهم في حيّ الشجاعية، شرقي مدينة غزة، وتكفّلت بتوفير احتياجاتهم وتقديم الفطور لهم خلال شهر رمضان.
المساهمون