براميل أم نزيه

26 سبتمبر 2014
(أحد براميل السيدة أم نزيه)
+ الخط -

في أسفل الدرج الموصل إلى كافيه أم نزيه الكائن في منطقة الجميزة في بيروت ثمة برميل مزروع بالورد يستفزني ويعيدني إلى هناك.. إلى بلاد تهبط فيها البراميل من السماء كهدايا موت يرسلها الدكتاتور لشعبه ليخلّصهم من ذواتهم "الإرهابية".

الاستفزاز لا يأتي من البرميل الذي حوّلته "أم نزيه" إلى حديقة ورد تحبل بالشعر، ومن كونه يعيدك إلى وطن الموت والاعتقال الذي هربت منه، بل من دفعه إياك لتقارن بين برميلين وزمنين وكائنين: الأول يضم الورد ويحتفي بالحياة والثاني يضم البارود ويحتفي بالموت، زمن ينتمي للآن والمستقبل والحرية حيث الفرح والصبايا المتكئات على الروح وآخر ينتمي لثقافة التوحّش والبربرية والسلطة بكامل فجورها.

الأول من صنع امرأة حوّلت مكانا ضيّقاً إلى ما يشبه الوطن الذي يلتقي فيه غرباء من كل العالم مع مواطني البلد لنصبح في قرية صغيرة تجسّد طريق طويل نحو حلم/ يوتوبيا طالما تحدث عنه الفلاسفة والشعراء. والثاني حوّل بلداً موغلاً في القدم والحضارة إلى معتقل وفرع أمن، طارداً مواطني البلد ومشتتاً إياهم في المنافي.

مع كل صعود وهبوط إلى جنة أم نزيه يأتي البرميل ليؤنب ضميرك، مذّكراً إياك بمن تركتهم يستيقظون الآن على وقع برميل يختلف عن برميل وردك الذي تشرب فنجان قهوتك الصباحية وأنت تتأمله، صارخاً في ذاتك: أأنت أنت؟ وباحثاً عن معنى الوجود والمكان الذي نقلك من زمن تشرب فيه قهوتك على هدير طائرة محمّلة بالموت إلى زمن الآن في أقل من شهر، ليّغص قلبك على رفاق في عتمة القبر أو المعتقل أو الوطن (لا فرق).

رفاق أصرّوا على الصمود في الوقت الذي خرجت فيه تاركاً إياهم لمصائرهم بين موت ومعتقل وموت، فتشعر بإثم الخيانة يبلل حلقك ويضغط على قلبك، فيغدو برميل الورد أمامك مجرد صدى عابر لبرميل الدكتاتور الذي يلاحقك حتى منفاك، صارخاً بك: هزمتك!

ما يزيد من حدّة الهزيمة واليأس والقرف أن يذكرك البرميل بـ "محلل سياسي" لبناني يستضيفه إعلام النظام دوماً ليبرّر جرائمه ويحدّثنا عن الفرق بين البرميل والقازان، لتسأل: هل رأى هذا المحلل برميل أم نزيه المعبّأ بالورد؟ وهل غادر هذا المحلل عقلية الحرب الأهلية وقازاناتها المحمّلة بالموت؟ ألم يدرك بعد الفرق بين ورد وبارود؟ وهل من باب الصدفة أن الكلمة الأولى محتواة ضمن الثانية؟ أعلى البشرية أن تعبر طريق البارود لتصل ورد الحرية؟

أهي الهزيمة حقاً، أم ضريبة الحرية الكبرى؟ تسأل ذاتك الموّزعة بين برميلين.

زهرة من البرميل توقظك لتقول لك إن هذي البلاد شهدت حرباً ضارية، وربما هذا المكان بالذات كان شاهداً على حروب الإخوة الذين دفنوا خلافاتهم أو أجّلوها لينهض ورد اليوم على جثة الموت، محيلاً إياه إلى مجرد ذكرى يخجل الجميع من مجرّد تذكرها، فيتقدّم الأمل ليطرد اليأس والهزيمة، باحثاً عن أم نزيه سورية ستأتي بعد عشرين عاماً من الآن لتزرع كل البراميل بورد الحرية، صارخة: من هنا مرّ الدكتاتور.

المساهمون