براء أشرف.. المهنة إنسان

10 سبتمبر 2015
إن رحيل "براء" يفتح جرحاً غائراً (مواقع التواصل)
+ الخط -
غريب أمر الكاتب، خاصة كاتب "مقال الرأي"، على وجه التحديد، في وطننا العربي، فهو يخط أرقى مهارات وفنون العمل الصحافي، وهو، خاصة بعد الانقلاب، يدفع ثمناً غالياً لكلماته، إذ يدافع عن شرف وكرامة الأمة، خاصة لما يجتمع له الموقف الخاص المناسب للثائر بالمشاركة في الوقفات والمظاهرات، ما تبقى منها حتى الآن، وما كان منها من قبل مزدهراً، ثم هو يخلو إلى نفسه فيبدع رأياً، إن لم يتم "الإمساك" به في الوقفات والتظاهرات، فإنه يتم تسجيل موقفه، موثقاً، في مقالاته وكتاباته، من الجهات الأمنية، ثم هو عرضة للقضايا، بل تقديم المقالات إلى النيابة بتهمة "الرأي" في وقت حكم الجنرالات لـ"مصر الانقلابية"..


وهل أعدى على الظلمة فيها من أصحاب الفكر والرأي، خاصة "المتمرسين" منهم.. ينال هؤلاء كل شر من الأنظمة.. وفي المقابل نادراً ما يحصلون على مقابل.. سوى احتراق أعمارهم وقلوبهم، وذهاب نقاء وألق أرواحهم نتيجة خيبة آمالهم مما تعانيه بلدانهم وآمالهم المفقودة في وطن يحتوي شتاتهم .. ويهبهم بعض ما يستحقونه..

دارتْ في الذهن هذه الأفكار وأكثر صبيحة وفاة الكاتب "براء أشرف"، خاصة بينما كنت أقرأ نعيه من قبل أصدقاء هنا وهناك على مواقع التواصل وغيرها، بعضهم ذكر أنه حفيد واحد من قيادات جماعة الإخوان، وبعض آخر قال إنه توفي قبل أن يبلغ الثلاثين من العمر، والكثيرون استعاذوا بالله من موت الفجاءة، أي من الموت بلا مقدمات من أمراض تعطي الآخرين فرصة لـ"التملي" في الراحلين جيداً بطرح "فكرة" احتمالية غيابهم عن أذهانهم بقوة، آخرون نشروا صورته مع ابنتيه بالغتي الصغر عمراً، الكبيرتين قامة من بعده بإذن الله، أما أفضل الأصدقاء حالاً فذكر طرفاً من مسيرته الفنية مع الأفلام الوثائقية وما شابه..

آلمني أن واحداً فقط من الأصدقاء ذكر أن البراء، رحمه الله، كان كاتباً للمقال في إحدى الصحف الانقلابية اليوم، قبل 25 من يناير، إذ كان "البراء" يكتب في المصري اليوم سابقاً، وفي "العربي الجديد" وموقع آخر مؤخراً، لم أجد إلا واحداً من الأصدقاء يتحدث عن آراء البراء القوية ضد الانقلاب.. مع أن جميع الأصدقاء من المفترض أنهم ضده.

ومع قلة الكُتّاب الصادقين الذين أنبروا يكتبون ضد الانقلاب بمهارة، وكون "براء" واحداً منهم.. إلا أن المخلصين في مصر والأمة نسوا أن مهارة البراء الرئيسية وسر عداوة النظام المصري له.. وحجزه في مطار القاهرة لساعات مؤخراً، كانت بسبب كتاباته.. ومقالات رأيه المزعجة المؤلمة له..

وللحقيقة فإن "براء" اجتمع له في حياته من اسمه نصيب كبير، فقد سارع إلى التبرؤ من حياتنا هذه في وقت عصيب مع شرف تجربته فيها، لم يزد عمره عن الثلاثين إلا بشهرين حين مات، ولكنه أبدع في مقالاته لما تنبأ بقصر عمره، وعقب على ذلك أنه في سباق مع الزمان من أجل كتابة كلمات يريد الفضفضة بها قبل الرحيل الوشيك الذي تنبأ به أبوه، وقال له صديق إنه ليس سبباً كافياً لأن يكون بمثل هذا الوعي والإدراك، ولإن عمره قصير أراد استباق الزمان بلقاء أناس يحبهم، والتكفير عن قليل أخطاء..

رحم الله براء.. بالتأكيد أفلامه الوثائقية التي انتجها كانت رائعة لأنه شارك فيها أيضاً، ولكني اعتقد إن أجمل ما فيه كانت مقالاته التي أبدعها.. والتي تناساها جميع الذين تناولوا رحيله المفاجئ عدا مقتطفات تم إعدادها على عجل بعد وفاته..

إن رحيل "براء" يفتح جرحاً غائراً في تكوين الأمة، ومصر تحديداً وقت أزمتها، والكاتب منها وفيها، ذلك الذي يحترق ليشير إلى الطريق الصحيح، ذلك الذي يستمر مماته واحتراقه طوال عمره لما يراه من مظاهر الحياة المغايرة لآفاق رؤيته وخط سير أمانيه وآماله في ازدهار ورفعة بلده، حتى إذا تم موته قال الناس مات، ونسوا أجمل ما أبدع إلا قليلاً منهم، إن "براء" كاتب القصة يفخر بإن نال نهاية رائعة بمضيّه عن عالمنا في هذا التوقيت، نهاية لم يكتبها كفه المبدع بل كتبتَها كف الأقدار، وحتى في وفاته لم نستطع وضع نقطة نظام تقتضي إعادة التفكير في وضع مثله في مكانه الصحيح من الحياة، وإن كانت الأقدار لن تغيّر من تاريخ وفاته فلعلها كانت ستسعده في عمره القليل بقليل من التقدير لم يلقه في هذا العالم الظالم حتى بعد الوفاة..

أثبت "البراء" أن شبابنا الغض الأخضر سيموت بفعل الانقلاب.. من لم يمت بسيفه وسجنه ومطارداته سيموت بالقهر من قلب حال بلادنا.. وترنح أمتنا من جراء ما يحدث في قلبها النابض مصر، وإننا لم نزل في المعسكر المقاوم له نستهين بمقدرتنا، أو على الأقل لا نحسن استغلالها لا في المحيا ولا الممات.. لم يعترف الكثيرون أن مهنة البراء الأساسية كانت كاتباً، مهنة لم ينل تكريماً مناسباً لها في الحياة، ولا حتى بعد الممات، لأنه لم يمت.. بل تبرأ من حياتنا بعدما لم يستطع أن يحيا فيها إنساناً كاتباً!

(مصر)
المساهمون