02 نوفمبر 2024
بخور لنفايات لبنان
لم يعرف تاريخ الدول الحديثة وضعاً تعجز فيه أي حكومة عن رفع قمامة مواطنيها من الشوارع. إنها حالةٌ مشينة لم تشهدها حتى كاتنغا أو الصومال. الجديد، هنا، أن المواطن اللبناني صار يعرف أن للنفايات والعسل قيمة تساوي الذهب؛ فالقمامة ليست بلا فائدة في لبنان. ومن فوائدها أنها زادت مساحة هذا البلد نحو مليون متر مربع، بعدما ردمت شركة "سوليدير" البحر بجبل الزبالة، قبالة فندق النورماندي القديم، وغنمت الشركة مليارات الدولارات. ومع أن لبنان بلد صغير، ولا تزيد مساحته على نصف مساحة محافظة حمص، فقد أطلق الجنرال غورو عليه اسم "لبنان الكبير" في عام 1920.
لبنان في الأساس منطقة صغيرة في شمال لبنان الحالي، لكن الجنرال غورو كبّر مساحته، وأضاف إليه سهل البقاع وطرابلس وعكّار ومرجعيون وحاصبيا، فصار يدعى "لبنان الكبير"، وجعل مساحته 10452 كلم2 . ولاحقاً، استأنفت القمامة ما قام به غورو، فزادت مساحة البلد كيلو متراً مربعاً واحداً، فصار 10453 كلم2. ومع ذلك، ما برح كثيرون يعتقدون أن مشكلة لبنان تكمن في مساحته، وكلما تقلصت هذه المساحة قلّت مشكلاته. وفكرة تقليص مساحة لبنان بدأت مع إميل إدة في سنة 1926 الذي قدم اقتراحاً إلى ولي أمره، الفرنسي هنري دي جوفنيل، يتضمن إعادة طرابلس وعكّار إلى سورية. وفي سنة 1930، رغب إميل ادة في فصل المناطق المكتظة بالمسلمين عن لبنان، للمحافظة على الطابع المسيحي للبلاد. وحمل أحد أبناء إميل إدة إلى حاييم وايزمن سنة 1946 مشروعاً ينص على التخلي لليهود عن جنوب لبنان من نهر الليطاني حتى الحدود. وكان إميل إدة يردد دائماً أنه يسعى إلى "لبنان الأكبر من الصغير والأصغر من الكبير". ومن طرائفه أنه استقبل مندوباً عن الطائفة اليهودية في لبنان، جاء يعرض عليه رغبة اليهود في أن يكون لهم مقعد في مجلس النواب، فأجابه إميل ادة ضاحكاً: "لكنكم ممثّلون جيداً في لبنان، فأنا – كما يقال - يهودي".
لا يمكن الاطمئنان إلى أن الكلام على تصغير مساحة لبنان صار متقادماً، إلا في بطون الوثائق المهلهلة. فهو تجدّد في سياق الحرب الأهلية اللبنانية، ففي اجتماع للرابطة المارونية في سنة 1976، طالب فؤاد أفرام البستاني وجواد بولس بتصغير مساحة لبنان (مذكرات بولس نعمان، بيروت: سائر المشرق، 2009). وفي خلوة سيدة البير في عام 1977، قال إدوار حنين: "كلما كَثُر تراب لبنان كَثُرت مشاكله"، ثم دعا إلى الاكتفاء بحدود متصرفية جبل لبنان القديمة، مع الإبقاء على بيروت ضمن نطاقه (المصدر السابق). وفي خلوة سيدة البير نفسها، قال الرئيس كميل شمعون إن لا راحة للمسيحيين إلا بالانفصال عن المسلمين. وكميل شمعون الذي كانت له صلة وثقى بالمخابرات الأميركية فضحه رجل الاستخبارات، ويلبر كرين إيفلاند، عندما روى عنه ما يلي: بعد الإعلان عن مرض جون فوستر دالاس بالسرطان، أرسل شمعون إلى إيفلاند رجلاً كبيراً في السن، ادعى أنه اكتشف علاجاً للسرطان، مستخرجاً من نوى المشمش. وأبرق إيفلاند إلى واشنطن بالأمر، فجاءه الرد: "عُد إلى بيتك" (إيفلاند، حبال من رمل، بيروت: دار المروج، 1985).
إن الكلام على إعادة النظر في حدود لبنان يتشابك مع التغني بلبنان وسمائه وأرزه وأرضه وتاريخه، ومع الصراع الطوائفي على النفايات أيضاً. وهذا التغني إنما يعكس ازدواجاً ذميماً في الشخصية اللبنانية، قياساً على حب الوطن في أميركا مثلاً، أو في أوروبا؛ فالناس في تلك البلاد قليلا ما يتحدّثون عن الوطن، وهم لا يذكرونه بألسنتهم، بل يخدمونه في سلوكهم. وشتان ما بين اللسان والأعمال. وبين المشمش والقمامة تدور الحياة في هذا البلد العجيب. فهاتِ البخور إذاً لإخفاء الروائح.
لبنان في الأساس منطقة صغيرة في شمال لبنان الحالي، لكن الجنرال غورو كبّر مساحته، وأضاف إليه سهل البقاع وطرابلس وعكّار ومرجعيون وحاصبيا، فصار يدعى "لبنان الكبير"، وجعل مساحته 10452 كلم2 . ولاحقاً، استأنفت القمامة ما قام به غورو، فزادت مساحة البلد كيلو متراً مربعاً واحداً، فصار 10453 كلم2. ومع ذلك، ما برح كثيرون يعتقدون أن مشكلة لبنان تكمن في مساحته، وكلما تقلصت هذه المساحة قلّت مشكلاته. وفكرة تقليص مساحة لبنان بدأت مع إميل إدة في سنة 1926 الذي قدم اقتراحاً إلى ولي أمره، الفرنسي هنري دي جوفنيل، يتضمن إعادة طرابلس وعكّار إلى سورية. وفي سنة 1930، رغب إميل ادة في فصل المناطق المكتظة بالمسلمين عن لبنان، للمحافظة على الطابع المسيحي للبلاد. وحمل أحد أبناء إميل إدة إلى حاييم وايزمن سنة 1946 مشروعاً ينص على التخلي لليهود عن جنوب لبنان من نهر الليطاني حتى الحدود. وكان إميل إدة يردد دائماً أنه يسعى إلى "لبنان الأكبر من الصغير والأصغر من الكبير". ومن طرائفه أنه استقبل مندوباً عن الطائفة اليهودية في لبنان، جاء يعرض عليه رغبة اليهود في أن يكون لهم مقعد في مجلس النواب، فأجابه إميل ادة ضاحكاً: "لكنكم ممثّلون جيداً في لبنان، فأنا – كما يقال - يهودي".
لا يمكن الاطمئنان إلى أن الكلام على تصغير مساحة لبنان صار متقادماً، إلا في بطون الوثائق المهلهلة. فهو تجدّد في سياق الحرب الأهلية اللبنانية، ففي اجتماع للرابطة المارونية في سنة 1976، طالب فؤاد أفرام البستاني وجواد بولس بتصغير مساحة لبنان (مذكرات بولس نعمان، بيروت: سائر المشرق، 2009). وفي خلوة سيدة البير في عام 1977، قال إدوار حنين: "كلما كَثُر تراب لبنان كَثُرت مشاكله"، ثم دعا إلى الاكتفاء بحدود متصرفية جبل لبنان القديمة، مع الإبقاء على بيروت ضمن نطاقه (المصدر السابق). وفي خلوة سيدة البير نفسها، قال الرئيس كميل شمعون إن لا راحة للمسيحيين إلا بالانفصال عن المسلمين. وكميل شمعون الذي كانت له صلة وثقى بالمخابرات الأميركية فضحه رجل الاستخبارات، ويلبر كرين إيفلاند، عندما روى عنه ما يلي: بعد الإعلان عن مرض جون فوستر دالاس بالسرطان، أرسل شمعون إلى إيفلاند رجلاً كبيراً في السن، ادعى أنه اكتشف علاجاً للسرطان، مستخرجاً من نوى المشمش. وأبرق إيفلاند إلى واشنطن بالأمر، فجاءه الرد: "عُد إلى بيتك" (إيفلاند، حبال من رمل، بيروت: دار المروج، 1985).
إن الكلام على إعادة النظر في حدود لبنان يتشابك مع التغني بلبنان وسمائه وأرزه وأرضه وتاريخه، ومع الصراع الطوائفي على النفايات أيضاً. وهذا التغني إنما يعكس ازدواجاً ذميماً في الشخصية اللبنانية، قياساً على حب الوطن في أميركا مثلاً، أو في أوروبا؛ فالناس في تلك البلاد قليلا ما يتحدّثون عن الوطن، وهم لا يذكرونه بألسنتهم، بل يخدمونه في سلوكهم. وشتان ما بين اللسان والأعمال. وبين المشمش والقمامة تدور الحياة في هذا البلد العجيب. فهاتِ البخور إذاً لإخفاء الروائح.