في خضم محاولات تطبيع العلاقات بين باكستان وأفغانستان، وتحديداً بعد بروز مؤشرات أوحت بأن باكستان مستعدة لتأدية دورها في المصالحة الأفغانية وإنجاحها، معطوفة على جدّية الولايات المتحدة حيال الملف، وقعت قضية اختطاف ضابط في الشرطة الباكستانية من العاصمة الباكستانية إسلام أباد، يدعى طاهر داور ثم قتله في شرق أفغانستان. حرّكت هذه القضية العرقية البشتونية القاطنة على طرفي الحدود بين الدولتين وأثارت حفيظتها، ودفعت الطرفين إلى موجة جديدة من تبادل الاتهامات، وإلقاء كل طرف اللوم على الطرف الثاني، بعد أن استولدت القضية حساسية في منتهى الخطورة في الأوساط القبلية، الأفغانية والباكستانية.
الوقائع بدأت في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إذ ذكرت أسرة الضابط، طاهر داور، المنتمي إلى قبيلة داور الشهيرة في وزيرستان، أنه خُطف، والضابط اشتهر في الفترة الأخيرة لمواقفه المعروفة ضد الحكومة والمخابرات الباكستانية وفي تأييد حركة الحماية عن البشتون، وتحديداً في ملف المخطوفين قسراً، المقدّر عددهم بالآلاف، ومعظمهم من قبائل البشتون والبلوش. الرجل كان يتحرك علناً في باكستان بعد أن أصبح من مؤيدي حركة الحماية عن البشتون، رغم تعرّضه مراراً لهجمات مسلحين، ومنها عمليتان انتحاريتان في مدينة بنو في شمال غربي باكستان، نجا منهما، في ظلّ كونه أحد المطلوبين للجماعات المسلحة، وتحديداً "طالبان".
بعد يومين من كلام أسرة الضابط، كشف افتخار دراني، المتحدث باسم رئيس الوزراء عمران خان، في حديث مع وسائل الإعلام، أن "الضابط وصل إلى منزله وأن خطأ قد حصل بعد أن أغلق الضابط جواله"، مشدّداً على أن "الرجل في مدينة بشاور وقد وصل إلى هناك آتياً من إسلام أباد". كذلك استهزأ من وسائل الإعلام التي أثارت القضية مؤكدة اختفاء داور.
وخلال فترة اختفاء داور بين 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي و15 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، التزمت الحكومة الصمت، في وقت ظنّت فيه أسرته أنه في قبضة الحكومة للتحقيق وسيعود، شأن كثير من قادة حركة الحماية عن البشتون. غير أن الأمور اتخذت منحى مغايراً، بعد إعلان مصادر قبلية في إقليم ننجرهار شرق أفغانستان، أنها عثرت على جثة في مديرية دور بابا بالقرب من ثكنة عسكرية باكستانية على الحدود، معها بطاقة هوية ضابط باكستاني مع رسالة مكتوبة باليد. ومن ثم تحركت القنوات الدبلوماسية الباكستانية، كما تحركت بموازاتها القبائل، تحديداً الأحزاب القومية المنتمية إلى العرقية البشتونية.
وكانت الحكومة الباكستانية تتوقع أن تسلم الحكومة الأفغانية جثمان الرجل إلى القنصلية الباكستانية في مدينة جلال أباد في اليوم ذاته، ولكن الحكومة الأفغانية لم تفعل ذلك، ورفضت أي تعامل عبر القنوات الدبلوماسية، مثيرة استياء الباكستانيين. وفي ظلّ انتظار القنصلية الباكستانية في جلال أباد والسفارة الباكستانية في كابول ردّ الحكومة، تحرّكت قبائل شرق أفغانستان وتسلّمت جثمان الرجل بدلاً من القنوات الرسمية، وبعد أداء كل المراسم تحركت القبائل نحو الحدود، نحو نقطة طورخم لتسلّم الجثمان إلى أسرة الرجل وإلى القبائل. وعلى الضفة الأخرى، أبدت حركة الحماية عن البشتون والزعامة القبلية وأسرة داور رغبتها في تسلّم الجثمان على الحدود، وحضرت مجموعة من زعماء القبائل في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني لتسلّم الجثمان، كما حضر بعض المسؤولين. ومع وصول الجميع إلى الأراضي الباكستانية أخذت السلطات الجثمان من ذوي الرجل والقبائل، وحدثت شجارات بين الطرفين. أقامت السلطات مراسم رسمية ثمّ سلّمته إلى أسرة الرجل، التي عبّرت عن غضبها برفضها تغطية الجثمان بالعلم الباكستاني.
بعد دفن الرجل حاولت جميع الأطراف تفسير القضية بحسب رؤيتها، وإعطاءها بعداً مناسباً لسياساتها. فالحكومة الباكستانية، استناداً لتقارير مخابراتية، أكدت أن الحادث وراءه تنظيم "داعش" وأن الضابط خُطف من العاصمة وتم نقله عبر مدينة ديره إسماعيل خان ثم بنو إلى أفغانستان وهناك تمت تصفيته. كذلك أعرب الجيش الباكستاني عن أسفه الشديد حيال تعامل كابول، وذكر الجيش، في بيان له، قبل أيام، أن "موقف الحكومة الأفغانية يثير العديد من التساؤلات وأنه يدل على أن هناك جهات أفغانية أخرى ساهمت في القضية ونحن نتطلع إلى أن تساعدنا الحكومة الأفغانية في التحقيقات للوصول إلى ملابسات القضية".
في هذا الإطار، قال رئيس الحكومة المحلية في إقليم ننجرهار، حيات الله حيات، وهو يسلم الجثمان على الحدود برفقة زعماء قبليين من الطرفين، إن "الجثمان قد وجد على بعد 100 متر من الثكنة العسكرية الباكستانية وأنه قد تمت تصفيته في الجانب الباكستاني، ثم تم نقل الجثة إلى الجانب الأفغاني، في محاولة للإيقاع بين طرفي القبائل ولخلق فجوة بينهما"، متهماً المخابرات الباكستانية بـ"الوقوف وراء القضية".
بعد أن بدا أن الحكومة الباكستانية اتخذت في البداية موقفاً سطحياً، لكنها غيّرت موقفها بعد أن لاحظت الحساسية في الأوساط القبلية، وبدأت تتعامل معها بجدية فائقة. في هذا الإطار، أعلن رئيس الوزراء عمران خان إجراء تحقيقات في القضية وتعيين لجنة قضائية لتقصي الحقيقة، كما أعربت جميع الأحزاب السياسية عن أسفها الشديد حيال القضية، ملقية باللائمة على الجماعات المسلحة، لا سيما أن داور قد تعرض مرتين للعمليات الانتحارية ولهجمات عدة، كونه أحد أبرز ضباط الشرطة في شمال غربي باكستان، وقد ساهم في العديد من العمليات المسلحة ضد المسلحين. غير أن الأحزاب القومية، مثل حركة الحماية عن البشتون، غير راضية عن خطوات الحكومة الباكستانية، ودعت إلى تحقيقات دولية.
في هذا السياق، قال أحد قياديي حركة الحماية عن البشتون، النائب محسن دارو: "إننا غير راضين تماماً عما أعلنته الحكومة الباكستانية وندعو إلى تحقيقات دولية". كذلك دعت أسرة الضباط إلى تحقيق دولي، كما أفصح شقيق القتيل، أحمد الدين داور، قبل أيام، معتبراً أن "الحادث وقع بين الدولتين ولا يمكن لجهة باكستانية التحقيق في القضية، وبالتالي ندعو إلى تحقيق دولي". كذلك أعلنت حركة الحماية عن البشتون أنها "تتشاور لاتخاذ استراتيجية بهذا الشأن لأن اختفاء أعضائها قسراً أمر مخيف ومقلق". كما نظّمت الأحزاب القومية، وعلى رأسها حزب عوامي القومي البشتوني، تظاهرات يوم الجمعة الماضي في البلاد، معلنة مواصلة الاحتجاج حتى تتعامل الحكومة بشكل جدي، ووفق مطالب القبائل، مع هذه القضية وغيرها من قضايا الإخفاء القسري.