كيف ستكتمل صورة المجتمعات العربية خلال شهر رمضان من دون مسلسل تلفزيوني كمسلسل "باب الحارة"؟ وهل هناك أجمل من الاسترخاء بكامل كسلنا أمام الشاشة لتعطيل الدماغ بعد أن عطّلنا أعضاء الجسد الخاصة بالحركة وعطلنا الأعمال الخاصة والعامة خلال شهر كامل بحجة الصيام وتعبّد الخالق؟ وماذا يليق بنا كشعوب من أعمال إبداعية بعدما أصبحت النرجيلة وهاتفنا الذكي خير جليسين في الأنام؟
■ ■ ■
يلقى مشروع المخرج بسام الملا "باب الحارة" سيلاً من النقد لم يعرفه أي عمل تلفزيوني آخر ربما، فمنذ بضع سنوات، بدأت وسائل الإعلام بالتململ من الأجزاء الجديدة لمسلسل باب الحارة، ساخطة على الصورة المتخلفة التي يقدمها عن المجتمع الدمشقي.
وزاد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي في الطنبور نغماً، فصار الفيسبوك مثلاً منبراً يكتب فيه الجميع منتقدين بحدة هذا المسلسل جملة وتفصيلاً، ساخرين من شخصياته التي أصبحت، بفعل تكرار الكلمات والحركات المبالغ فيها، شخصيات كاريكاتيرية تدعو فعلاً للرثاء. كل هذا في الوقت الذي ما يزال هذا المسلسل يحصد فيه اهتماماً واسعاً من قبل القنوات التلفزيونية وكذلك من قبل جمهور الأوساط الشعبية.
■ ■ ■
ويجتهد أيضاً كثيرون من رواد الفيسبوك السوريين في نشر بعض المعلومات عن الطبيبة الأولى أو الصيدلانية الأولى أو... ويذيلون منشورهم بكلمات عن أن هؤلاء هنّ الدمشقيات لا أم زكي ولا أم عصام. كما دأب آخرون على نشر صور فوتوغرافية لأشخاص دمشقيين ذوي مكانة علمية أو اجتماعية عاشوا في مطلع القرن العشرين وأواسطه، للتدليل على أن "باب الحارة" لا يمثل دمشق، وشخصياته لا ينتمون إليها بأي شكل من الأشكال.
من هذه الصور مثلاً، صورة لوفد سورية خلال مؤتمر المرأة الشرقية والذي عقد في دمشق سنة 1930 (وقد كن أغلبهن من عائلات السياسيين والبورجوازيين السوريين المعروفين)!
ومن جديد مقالات النقد بحق هذا المسلسل، واحدة انتشرت بشكل واسع في الشبكة العنكبوتية للكاتب السوري موسى رحوم عباس، وهي بعنوان "ليلة إعدام دمشق"، يبدأها منادياً بسجن "لصوص التاريخ" صنّاع المسلسل الذين جعلوا من دمشق "ضيعة متخلفة سجنها بابٌ خشبي"، وينهي مقالته كما بدأ بها فيدعو أبناء دمشق "للدفاع عن تاريخ بلادهم ضد السفهاء من كتبة ومخرجين ومنتجين؛ ليقيموا عليهم الدعاوى القانونية".
وما بين السجن والدعوة القضائية يسترسل كغيره في التعريف عن حركة التنوير والتمدن والعلم التي كانت تسري في أحياء المدينة وشرايينها، مذكراً بالانتخابات الديمقراطية التي جرت خلال هذه الفترة وتشكل الأحزاب السياسية وظهور الأندية الفنية والثقافية وصدور مجموعة من الصحف الساخرة...
إن كل هذه التفاصيل التي يذكرها الكاتب وغيره هي شيء جميل وحقيقي بالطبع ولكن ما نسبة الأشخاص الذين كانوا يعيشون هذه الحياة المدنية المتطورة فتنتسب إلى الأحزاب عن اقتناع وترتاد المسارح وتشاهد الأعمال الفنية وتقرأ الجريدة ساخرة؟ وهل "باب الحارة" هو صورة معاكسة تماماً لتلك الصور الفوتوغرافية المجيدة؟ لمَ هذا الانفعال والانشغال به، هل هو كتاب يؤرخ للمدينة أو فيلم وثائقي عنها؟
■ ■ ■
لا يجب أن نضع "باب الحارة" في خانة غير خانته، فهو مسلسل للتسلية وتمضية الوقت لا أكثر، لا يدعي التوثيق التاريخي وإن وضعوا إطاراً تاريخياً لمجريات أحداثه.
كما نعتقد أن من يتابعه فهو يتابعه بهدف متابعة مجموعة الأحداث الاجتماعية والكوميدية، التي تتوالى وتتوالد من غير توقف على خلفية تاريخية سياسية، ازداد حضورها باضطراد مع كل جزء جديد، لتكتمل "السردة" وليحمى وطيس المراجل على كافة الصعد، في البيت وفي الحارة وعلى مستوى المدينة والبلد.
ونعتقد أن المخرج بسام الملا أراد تكرار تجربته الناجحة التي حققها مسلسله الشهير "أيام شامية" والذي عرض في تسعينيات القرن الماضي وكانت تدور أحداثه أيضاً في أوائل القرن العشرين، قبل مجيء الانتداب الفرنسي بقليل في بيئة مشابهة. والنجاح الجماهيري والمادي الذي حققه باب حارتنا في أجزائه الأولى شجعت الملا على المضي قدماً في هذا "البزنس".
■ ■ ■
كيف لنا أن نستغرب "حواديت" مسلسلنا هذا وترّهاته إن كنا قد سمعنا أو قرأنا القصص الشعبية الشامية التي كانت تتناقلها الألسن عن الجن والعفاريت وكيد النساء وجور الرجال؟ ألا نعلم أيضاً ما كان يحدث آنذاك من "طوشات" بين أنصار "عنترة" وأنصار غريمه "عمارة" في المقاهي؟
ألم نسمع عن حكايات تعود لفترة ظهور التلفزيون المحلّي وكيف كانت النساء تتوارى خجلاً لدى ظهور المذيع على الشاشة. وحتى في أيامنا الحالية ألا تحصل جرائم "شرف" لمجرد الشبهة أو العلاقة البريئة لفتاة مع صديق لها؟
لم تأت هذه القصص كلها من بنات عقول متخلفة كما يُقال، بل هي عادات كانت موجودة، ومنها ما بقي حتى الآن، وربما بالغوا فيها قليلاً لزوم الحكاية. وتاريخ دمشق في تلك الحقبة هو تاريخ حارات منغلقة بالإضافة إلى ساحات كانت تتفتح على الشمس بعد أربعمائة عام من العزلة، تاريخ يمثله أبو عصام وأم زكي كما يمثله القوتلي وماري عجمي.
وما يؤرقنا بالفعل ليس صورة المدينة التي نراها في حكاية مليئة بالعنتريات والتهريج، بل في أن طاقم العمل قد نجح في إنتاج تسعة أجزاء، في أن هذا "ما يطلبه الجمهور".
في كل فترة عصيبة، وما أكثرها هذه الفترات، ندافع عن واقعنا المزري باختلاق أعداء تسهل محاربتهم والانتصار عليهم كصنّاع هذا المسلسل... ومن ثم نعود إلى النوم.
* فنان تشكيلي سوري