بؤس روسي مباشرةً على الهواء.. في 10 دقائق

02 مايو 2016
(Getty)
+ الخط -



خسر كلّ مَن لم يسمع النشرة المطوّلة لأخبار إذاعة "سبوتنيك" الروسية، بنسختها العربية، مساء أمس الأحد. خسر لأنه فوّت على نفسه إمكانية توفير الوقت والجهد لتكوين صورة مختصرة وكافية لماهية روسيا ــ فلاديمير بوتين، ونظرتها إلى نفسها وإلى العالم. 

دقائق خمس فقط كانت كافية للمستمع، لكي يستوعب مدى العنجهية التي تتعاطى معها النسخة البوتينية لروسيا الحالية الاستعمارية اليمينية في كل شيء.

هي روسيا لا تزال الإذاعة اللبنانية المحلية التي تبثّ موجة "سبوتنيك"، أي إذاعة الحزب الشيوعي اللبناني، "صوت الشعب"، تظنّ أنها نسخة محدثة من الاتحاد السوفييتي بجيشه الأحمر ولينينه، وهي فكرة مضحكة لا بل خرقاء يتشاركها عدد كبير ممّن يسمّون أنفسهم شيوعيين في العالم العربي، بينما يسخرون من أنفسهم أو من الآخرين عبر تجاهلهم أن روسيا البوتينية، قد تكون أبعد بكثير من الولايات المتحدة عن كل ما يمت بصلة إلى الشيوعية أو الاشتراكية أو تيار الديمقراطية الاجتماعية حتى، بل النسخة الأكثر جذرية في العالم اليوم للإمبريالية والتوسع الاستعماري في الخارج، واليمينية المتطرفة اقتصادياً في الداخل، المتماهية مع كنيستها، والمعادية كل العداء لكل ما هو ديمقراطي ثوري تغييري.. اسألوا الشيوعيين الروس عن جحيمهم.

يبدأ تعذيب النفس، أي الاستماع إلى مقدمة النشرة المطولة، وهي تنقل معايدة "الرئيس بوتين للمسيحيين"، مع أل التعريف.

يتذكر المستمع سريعاً أنه زمن أعياد الفصح عند المسيحيين ممن يتبعون التقويم الشرقي، وهم بالنسبة لمقدمة النشرة ولبوتين على الأرجح، كل المسيحيين، مع أنهم ليسوا كذلك أبداً طبعاً عددياً. عيّنة أولى لكن معبرة عن نظرة روسيا البوتينية إلى نفسها والآخرين حتى في مجال الدين وعدم الاعتراف بالآخر، أيّاً كان هذا الآخر. تنتقل المذيعة لتقتبس عبارات من رسالة بوتين إلى "المسيحيين" وفيها يسهب الرجل في التغني بـ"القيم الأرثوذكسية الخالدة" (بوتين شيوعي حقيقي) وبـ"الأخلاق الأرثوذكسية"...

الإهانة الكبرى تلي خبر عيد الـ"مسيحيين"، حين تخبرنا المذيعة عن احتفالات الشعوب الروسية بـ"عيد الربيع والعمل"! نعم، الأول من مايو/أيار، صار اسمه في عهد روسيا ــ بوتين اليمينية المتطرفة، "عيد الربيع والعمل"، لا عيد العمال، رمز الشيوعية التي يقول لنا بعض الجهابذة من أهل مدعي اليسار، أنها تُختصر ببوتين، لينين القرن الواحد والعشرين. كان ينقص أن يكون اسمه عيد "العمل والزهور والأمواج" لكي تضيع حمولة عيد العمال بالكامل، بلا كلمة ربيع ربما، بما أن الربيع، تعريفاً، هو تجديد للطاقة، أي احتمال لأن يرمز إلى ثورة، أي ثورة كانت.


بعدها يأتي الجدّ، أو الدم، أي دور الصفحة السورية في النشرة المطوّلة، حيث الخبر هو عن سيطرة "الجيش العربي السوري على مزارع قرب ميدنة تدمر السورية". تدمر؟ أين حلب؟ أين المجزرة؟ أين الإبادة؟ حتى ولو أن المعارضة تقتل نفسها وناسها في حلب على ما تخبرنا وسائل إعلام نظام الأسد، أين أخبار المؤامرة؟ لا شيء. كل ما في الأمر انتصارات "الجيش العربي السوري على إرهابيي داعش".

هكذا، تظن روسيا أنها قادرة، بوسائل إعلام ضئيلة المواهب والمهنية والقدرات، أين منها أزمان "البرافدا"، أن بإمكانها تعميم روايتها المضحكة عن أحداث العالم، كإخفاء مقتلة حلب ببساطة عبر تجاهُل أخبارها في نشرة ربما عدد من يسمعها لا يتجاوز المئات.

ولأنّ النشرة العربية موجهة للعرب أولاً طبعاً، كان لا بد من التوقف مطولاً عن أنباء زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى نيويورك بصفته ممثل الدولة التي ترأس لجنة مكافحة الإرهاب التابعة لمجلس الأمن الدولي حالياً. هناك، المجال الأوسع للإسهاب في نسخ بلا تحفظ مهني للرواية المصرية عن دور إنجازات القاهرة في محاربة الإرهاب (اسألوا أهل سيناء وضحايا القمع اليومي من المتظاهرين وآلاف الـ"جوليو ريجيني" من ضحايا القتل تعذيباً المنسيين لأنهم ليسوا أوروبيين بل "مجرد مصريين" ومعتصمي ميدان رابعة...).

وبشكل غريب، تنتقل النشرة إلى برنامج أغلب الظن أن اسمه "بوضوح"، شاءت الصدفة أن يكون موضوعه يوم الأحد "التصريحات الخارجة عن اللياقات الإنسانية والدبلوماسية التركية عن مصر بدورها وأهميتها". عنوان يكاد لا ينتهي على لسان مقدمة البرنامج، يناقش تصريحات وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو حول مصر، أدلى بها من دولة الإمارات التي يزورها، وقال فيها إن مصر اليوم ليست قوية، وعاجزة عن الصمود من دون دعم حلفائها الإقليميين (أبرزهم دولة الإمارات طبعاً)، وأشار فيها إلى أن "المحروسة" صارت تشكل عبئاً على هؤلاء الحلفاء.

وكأن الوزير التركي شتم تاريخ روسيا ليجن جنون مقدمة البرنامج وضيفها (اسمه خالد عكاشة... عكاشة أيضاً؟) ويدخلا في منافسة لمهاجمة تركيا التي يصورها المتكلم من القاهرة (قدمته المذيعة كرئيس لمركز ما للأبحاث) على أنها مسكينة "تعيش انعداماً في التوازن نتيجة صدمتها من ثورة 30 يونيو 2013"، من دون أن يتذكر الرجل نسب كل ما قاله حرفياً للمتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد الذي أطربنا بمعزوفته عن تركيا حيال الموضوع نفسه خلال النشرة العتيدة نفسها، وقبل لحظات من بدء البرنامج.

تنتهي نشرة "سبوتنيك". تسارع إلى البحث في المحرِّك لمحاولة معرفة ما إذا كانت الإذاعة وسيلة إعلام حكومية أو خاصة. يطول بحثك لكنك لن تجد المعلومة المطلوبة، بل تحزن لأنك تكتشف أن للإذاعة بثاً بـ31 لغة حول العالم (على ذمة الموقع الرسمي للإذاعة)، أي أن شعوباً في أكثر من 31 دولة قرروا تعذيب أنفسهم مثلك في زمان واحد وأمكنة متعددة.
المساهمون