المتوقع غالباً أن ينعكس فعل الثورات بمتغيّرات جذرية في الدولة والمجتمع، غير أن من الملاحظ أن الأدب الذي عادة ما يسبق الثورة، لا يجاريها، إذ للثورات مهام، أولها التحوّل إلى نظام، ربما كان امتداداً للنظام السابق بشعارات مضادة، بينما يعتقد الأدب أن المستقبل يحتاج إلى استمرار الثورة. إزاء هذا التعارض، لا غرابة في أن يكون من ضحاياها.
غالباً ما استشعر المفكرون والأدباء الحاجة إلى التغيير، وبشروا به. كان "التغيير" من التوقعات الشائعة والدارجة التي تتردّد سواء تحقق أو لم يتحقق. كلاهما لم يجترحا جديداً بتنبؤاتهما، وكانت غالباً في معرض الاحتجاج على الظلم.
عموماً من خلال الشواهد، لم تكن العلاقة بين الثورة والمثقفين مستقرة على الدوام، كانت متذبذبة. فكتابات المفكرين الفرنسيين مهّدت للثورة الفرنسية، في حين لم تجذب الأدباء الذين عاصروا تقلباتها خلال عدة عقود من الزمن، وكان لأغلبهم مواقف ضدها، فتساهلوا مع الطغيان بحجة نفورهم من الدهماء والدماء.
بينما الثورة الروسية التي آزرها غالبية المثقفين، أحبطت الأدب، وقتلت الأدباء، مع أنهم كانوا أبناءها لا دخلاء عليها، حتى أصبحت روسيا بلداً طارداً للأدب والأدباء أمثال بونين ونابوكوف وسولجنتسين، إضافة إلى كبار الفنانين من رسامين وموسيقيين. أما الذين مكثوا في الداخل، فتحملوا نزوات سلطة بوليسية، خنقت حرية الرأي والتعبير، فلم توفر بولغاكوف وباسترناك وغيرهم من المضايقات والمنع.
لا يُحدث الأدب ما يوازي فعل الثورات، إذ إن ما تؤسسه بالعنف، لا ينسجم مع تأسيس تيارات راسخة شكّلت تاريخ الأدب على مر العصور. إذ للأدب سيرورته التي لا تخضع لمنطق الأسلحة. وإذا تأملنا تجلياته: الكلاسيكية والرومانسية والطبيعية والواقعية؛ فهي لم تولد تحت تأثير المتغيّرات على الأرض، ولو حاول النقد إيجاد صلة بينهما.
إن الواقع رغم ما يتطلبه من حرّيات وما يفرزه من مظالم، لا يفرض على الكاتب الانتفاض على أدواته الفنية، إلا عندما لا تفي مع الزمن بأغراضه الذاتية، ما يفسح المجال لطفرات الأدب.
تنتصر الثورات بالسلاح والبشر، تأتي مزوّدة بما لا تقبل الاعتراض عليه، وتصنف بشكل جائر كل من ينتقدها على أنه يقف ضدها، بينما يقف الكاتب مع الثورة، لأنه يقف إلى جانب الضمير، فهو ليس على عداوة معها، إنما الثورات لديها وساوسها تجاه كل من ليس على انسجام كامل معها، ما يزرع سوء التفاهم بينهما. وليس غريباً أن تكون ضيقة الأفق، فتصطدم مع الأدب الذي ناضل معها.
ينساق الأدب بطبيعته إلى الثورة، وإلا خان نفسه، وإذا اكتفى بالصمت، فقد ألغى دوره. حتى لو كان الكاتب على وفاق معها، فهذا لا يعني أنه على وفاق مع الثوار الذين لا يدركون أن انطواء الأدب في الصمت، يعني انحدار الثورة إلى ما يرسم نهاياتها، ويطويها في الشمولية.
اقرأ أيضاً: تخريب العالم