يعيش الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أول أزمة سياسية تعصف بولايته الرئاسية، إثر انسحاب حزب الحركة الديمقراطية الوسطي (موديم)، الذي يتزعمه فرانسوا بايرو، وهو الانسحاب الذي عكسته استقالة بايرو من منصب وزير العدل، ووزيرة الشؤون الأوروبية، ماريال دو سارنيز، غداة استقالة وزير الدفاع، سيلفي غولار، أول من أمس، والتي عزتها إلى "الرغبة في إظهار حسن نيتها" وتسهيل مهمة القضاء الذي فتح تحقيقاً في شبهات بشأن تورط نواب حزب "موديم" في قضية وظائف وهمية لمساعدين برلمانيين.
وكانت متاعب وزراء حزب "موديم" في الحكومة بدأت في 22 مارس/آذار الماضي، حين فتح القضاء الفرنسي تحقيقاً أولياً حول 19 نائباً برلمانياً أوروبياً، من بينهم الوزيرتان المستقيلتان دو سارنيز وغولار، إثر تقديم نائبة حزب "الجبهة الوطنية"، سوفي مونتيل، شكوى حول توظيف هؤلاء النواب للمساعدين البرلمانيين بشكل غير قانوني. كما فتح مكتب الادعاء في باريس، الجمعة الماضي، تحقيقاً بشأن "خيانة الأمانة"، لكشف ما إذا كان حزب "موديم" دفع رواتب إضافية لموظفين معه عبر توظيفهم كمساعدين برلمانيين أوروبيين. وفي ظرف ثلاثة أيام، اهتزت أركان الرئاسة الفرنسية، رغم الانتصار الكاسح الذي حققه حزب ماكرون في الانتخابات التشريعية (308 نواب من أصل 577 مقعداً نيابياً) وسيطرته المطلقة على السلطتين التنفيذية والتشريعية. ذلك أن الاستقالات المتتالية لوزراء "موديم" سبقها الإعلان، الإثنين الماضي، عن مغادرة وزير تماسك الأقاليم، المقرب من ماكرون، ريشار فيران، الذي سيتولى منصب رئيس الفريق النيابي للحزب الرئاسي الحاكم "الجمهورية إلى الأمام". وفيران، الذي رافق ماكرون في مسيرته نحو السلطة، مستهدف بتحقيق تمهيدي بشبهات بمحاباة قد تكون استفادت منها زوجته في عملية عقارية.
وجاءت هذه الاستقالات في وقت يتهيأ فيه رئيس الحكومة، إدوار فيليب، لإعلان تشكيلة حكومة جديدة، بعد إجراء تعديلات طفيفة، يتمثل خصوصاً في إضافة شخصيات جديدة في مناصب مفتشين سامين وكتاب دولة، تماشياً مع العُرف الجمهوري، الذي يقضي بإجراء تعديل حكومي تقني مباشرة بعد الانتخابات التشريعية. إلا أن التعديل الطفيف والتقني، الذي كان متوقعاً، بات عليه بحكم المعطيات الجديدة أن يتحول إلى تغيير جذري يطاول وزارات أساسية، بعد خروج بايرو من التحالف الحكومي. كما أن على رئيس الحكومة أن يجد بسرعة أربعة وزراء جدد تتوافر فيهم كل الشروط اللازمة، بما فيه الولاء للرئيس و"نظافة" قضائية لا جدال فيها.
والواقع أن استقالة وزيرة الدفاع، سيلفي غولار، هي التي أرغمت بايرو ودو سارنيز على اتخاذ قرار خروج كل وزراء "موديم" من الحكومة. لأن قرارها زاد من الضغوط على بايرو ودو سارنيز، وكان بقاؤهما في التشكيلة الحكومية المقبلة سيعني أنهما أقل "مصداقية ونزاهة" من غولار، التي أصرت على استقالتها بالرغم من تحفظ ماكرون، وذلك لإظهار حسن نيتها والدفاع عن نفسها أمام الشبهات التي تحوم حول حزب "موديم" في قضية التوظيف الوهمي لمساعدين برلمانيين، وذلك بعد أن فتح القضاء تحقيقاً أولياً بشأنها.
وفي مواجهة هذه الأزمة الحكومية المفاجئة التي عصفت بالتحالف الذي لعب دوراً حاسماً وأساسياً في فوز ماكرون في الانتخابات الرئاسية، التزمت الرئاسة الصمت المطبق، ما يعكس درجة كبيرة من الإحراج، وفضلت عدم التعقيب والعمل على سيناريو جديد لتجاوز الأزمة وتشكيل حكومة جديدة تطوي صفحة التحالف مع بايرو. وحده الناطق باسم الحكومة، كريستوف كاستانيي، علق على مغادرة حزب "موديم" ووزرائه الحكومة بصراحة لافتة، معتبراً أن قرار بايرو "خيار شخصي" ويعكس إرادته "في الدفاع عن نفسه وعن حزبه من دون إكراهات منصبه الوزاري". وأضاف "أعتقد أن قراره يسهل مهمة الرئيس إيمانويل ماكرون" في إشارة إلى الإشكال الذي بات يخلقه وجود وزراء حزب "موديم" في الحكومة في ظل الاشتباه بتورطهم في قضية توظيف وهمي. ويشكل هذا التصريح قراءة أولية وإيجابية تركز على "النصف الملآن من الكأس"، في الأزمة التي يثيرها انسحاب حزب "موديم" وزعيمه بايرو من الحكومة، وهي تعتبره مغادرة "طوعية" تصب في مصلحة ماكرون الذي يرفع شعار النزاهة وتخليق الحياة السياسية وإحداث قطيعة مع الممارسات المشبوهة للنخب السياسية. وبفضل هذا الانسحاب سيكون بمقدور ماكرون وفيليب تشكيل حكومة جديدة، يكون الوزراء فيها بعيدين عن أي شبهة فساد أو استغلال نفوذ، وتتمتع بانسجام سياسي تام.
وليس خافياً أيضاً أن انسحاب بايرو من الحكومة يلقى أصداء إيجابية في أوساط المقربين من ماكرون، كونه سيوفر على الرئيس "متاعب مستقبلية محتملة" مع هذا الزعيم المخضرم، الذي يجر وراءه أربعة عقود من العمل السياسي، والمعروف بمزاجه الحاد والمتقلب وولعه بافتعال الأزمات، والذي لا يتردد في انتقاد حلفاءه والانقلاب من معسكر سياسي إلى آخر. وبين استطلاع للرأي، أجراه معهد "هاريس" لإذاعة "مونتي كارلو" و"أتلانتيكو"، أن 57 في المائة من الفرنسيين لا يرغبون في بقاء بايرو ضمن الحكومة. وقال بايرو "اتخذت القرار بعدم المشاركة في الحكومة المقبلة"، مؤكداً أنه اتخذ القرار بمبادرة منه ولم يمله عليه أحد. وقال مصدر في حزب "موديم" إن دو سارنيز، التي انتخبت، الأحد الماضي، نائبة عن باريس ستتفرغ لترؤس كتلة حزبها في الجمعية الوطنية. كما أن تصريحات بايرو الإعلامية الأخيرة كادت تثير أزمة مع رئيس الحكومة، إدوار فيليب، الذي طلب منه الالتزام بواجب "التحفظ" الذي يفرضه عليه منصبه كوزير للعدل، عندما اتصل بايرو بمدير إذاعة "راديو فرنسا" ليشكو من تحقيق استقصائي بثته الإذاعة حول شبهات توظيف نواب من حزب "موديم" مساعدين برلمانيين. وهو ما اعتبرته نقابات الصحافيين "سلوكاً غير مقبول يهدف إلى تكميم حرية الصحافة والتعبير".
ويبقى التساؤل الآن منصباً حول طبيعة الدور الذي سيؤديه حزب "موديم" في الساحة السياسية خارج الحكومة، وهو الذي يتوفر الآن على فريق نيابي هام في البرلمان بلغ 42 نائباً. وأيضاً أي مصير ينتظر بايرو شخصياً؟ فالرجل أحرق أوراقه تقريباً عندما ترفع عن الترشح للانتخابات التشريعية، وفضل التفرغ لمنصبه على رأس وزارة العدل. لذا فهو لا مكان له في البرلمان الآن، والمنصب الوحيد الذي لا يزال بإمكانه العودة إليه هو رئيس بلدية مدينة بو، وهو منصب "صغير جداً" بالنسبة إلى زعيم سياسي عنيد تعود، في الآونة الأخيرة، على احتلال الصدارة في المشهد السياسي.