10 نوفمبر 2024
انتخابات تونس وشبح بورقيبة
دخلت تونس، بانتخاب قيس سعيّد رئيسا، مرحلة سياسية ثالثة، منذ بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، باعتبار أن حياتها السياسية، من الاستقلال وحتى تفجُّر الربيع العربي، كانت فترة هيمنة فردية، ضاعت فيها شخصية الدولة في شخصية الحاكم، وجرى عليها ما جرى على أقطار المنطقة العربية.. توِّجت لحظة انطلاق الربيع العربي من سوق الخضار في مدينة سيدي بوزيد، برحيل زين العابدين بن علي، تناوب على الحكم بعد ذلك بعض رجالات المعارضة، لتستقر الأوضاع في تونس، وإنْ مؤقتا..
مثَّل الباجي قائد السبسي الذي وصل إلى كرسي الرئاسة في انتخابات عام 2014 تقاليد علمانية طموحة، لها ركيزة تاريخية متعلقة بشخص الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة. حاول السبسي أن يكون معادلاً سياسياً لبورقيبة، وهو ينتمي إلى المدرسة نفسها، ولكن بلبوس ديمقراطي هذه المرة، فأولى اهتماماً خاصاً بالقوانين، وحرص على إقرار وجهٍ حداثي لتونس ذي نمط غربي، ونجح في إبراز علمانية الدولة، من خلال القوانين المستوحاة من فرنسا، ووجّه اهتماماً خاصاً بالمرأة، وابتعد بشكل مقصود، ومبالغ فيه، عن التشريع الإسلامي، وقد أراد أن يطبق تعديلات دستورية تعطي الرئيس مزيداً من الصلاحيات، ولكنه توفي قبل أن يبدأ بذلك. لم يستطع السبسي إحراز تقدم في الاقتصاد، فبقيت سياساته في هذا المجال سطحية، ولم تفلح في تغيير حياة المواطن التونسي الذي حافظ على مستويات فقره، وبقيت قوانين السبسي الاجتماعية ذات العناوين الجذابة دون انعكاساتٍ تنموية، فتراوح عهده بين تكرار محاولات بورقيبة وتقارب مع حركة النهضة، الإسلامية، جاء بشكل إجباري فرضته نتائج انتخاب برلماني، حيث تنازل التياران لصالح التعايش. وبوفاة السبسي دخلت تونس مرحلتها الثالثة.
لم يختفِ شبح بورقيبة نهائياً بعد رحيل السبسي، فأطل مرة أخرى تحت عناوين جديدة، ظهرت في طروحات الرئيس قيس سعيّد، وإن حملت غلافاً مختلفاً. وما كادت تونس تخرج من مأتم رئيسها حتى دخلت الانتخابات النيابية منتزعة من حزب نداء تونس الذي أسسه السبسي المركزَ الأول، بعد أن وجهت له ضربة قاضية، فحاز ثلاثة مقاعد فقط بدل الـ 86 التي أعطته الكلمة الفصل في المرحلة السابقة. تراجعت حركة النهضة أيضاً، ولكنه تراجع يشبه الانتصار، فقد حلت في المركز الأول، على الرغم من فقدانها 17 مقعداً، وقد حصلت على 52 مقعداً، بحيث يكون رئيس كتلتها المرشحَ المفضل لتشكيل الحكومة، فيما توزّعت بقية المقاعد على تشكيلات جديدة، أو تشكيلاتٍ أدخلت تغييراً على بنيتها التنظيمية أو السياسية، ولكن الطيف السياسي توزع بعشوائية كبيرة يمكن أن تصعِّب عملية تشكيل حكومة، أو تجعلها شبه مستحيلة، وهي بحاجة لائتلاف ثلاثة تشكيلاتٍ حزبيةٍ من أول أربعة.
جاءت الانتخابات الرئاسية أخيرا أكثر تعبيراً عن توجه التونسيين التقليدي، فقد فاز رجل قانون أمضى شبابه في زمن بورقيبة، واكتسب نضجه القانوني والسياسي في زمن زين العابدين بن علي، وتقدّم من الخطوط الخلفية ليتصدر المشهد. وأعلن الجمهور التونسي، في انتخابه قيس سعيّد، عن رغبته في الحصول على طبقةٍ سياسيةٍ نزيهة بعيدة عن الفساد، بملامح هادئة، وخطاب غير انفعالي، ولكن بخلفياتٍ تقليديةٍ رصينة. وباعتماده على سعيّد، يفصح الناخب عن رغبته ببورقيبة جديد بنسخة معدلة، تستوعب متطلبات العصر الراهن، ومن ضمنها الاستحقاق الديمقراطي، مع ميل بسيط نحو خطاب عروبي واضح، في حنينٍ ونزعةٍ صريحةٍ إلى مزيد من الالتصاق بالمحيط العربي، ولكن، وللمرة الثانية، من دون هوية اقتصادية محدّدة. غياب هذه الهوية بالذات هو ما جعل التونسيين في السابق يديرون ظهورهم لتيار الباجي السبسي. وقيس سعيّد لم يفصح، خلال حملته الانتخابية، عما لديه بشأن هذا العامل الملح. في هذه الحال، قد تعيد تجربة السبسي نفسها، ولن يترك الرئيس الجديد وراءه سوى بعض قوانين حداثوية إلى جانب اقتصاد حائر لا يعرف له حلاً.
لم يختفِ شبح بورقيبة نهائياً بعد رحيل السبسي، فأطل مرة أخرى تحت عناوين جديدة، ظهرت في طروحات الرئيس قيس سعيّد، وإن حملت غلافاً مختلفاً. وما كادت تونس تخرج من مأتم رئيسها حتى دخلت الانتخابات النيابية منتزعة من حزب نداء تونس الذي أسسه السبسي المركزَ الأول، بعد أن وجهت له ضربة قاضية، فحاز ثلاثة مقاعد فقط بدل الـ 86 التي أعطته الكلمة الفصل في المرحلة السابقة. تراجعت حركة النهضة أيضاً، ولكنه تراجع يشبه الانتصار، فقد حلت في المركز الأول، على الرغم من فقدانها 17 مقعداً، وقد حصلت على 52 مقعداً، بحيث يكون رئيس كتلتها المرشحَ المفضل لتشكيل الحكومة، فيما توزّعت بقية المقاعد على تشكيلات جديدة، أو تشكيلاتٍ أدخلت تغييراً على بنيتها التنظيمية أو السياسية، ولكن الطيف السياسي توزع بعشوائية كبيرة يمكن أن تصعِّب عملية تشكيل حكومة، أو تجعلها شبه مستحيلة، وهي بحاجة لائتلاف ثلاثة تشكيلاتٍ حزبيةٍ من أول أربعة.
جاءت الانتخابات الرئاسية أخيرا أكثر تعبيراً عن توجه التونسيين التقليدي، فقد فاز رجل قانون أمضى شبابه في زمن بورقيبة، واكتسب نضجه القانوني والسياسي في زمن زين العابدين بن علي، وتقدّم من الخطوط الخلفية ليتصدر المشهد. وأعلن الجمهور التونسي، في انتخابه قيس سعيّد، عن رغبته في الحصول على طبقةٍ سياسيةٍ نزيهة بعيدة عن الفساد، بملامح هادئة، وخطاب غير انفعالي، ولكن بخلفياتٍ تقليديةٍ رصينة. وباعتماده على سعيّد، يفصح الناخب عن رغبته ببورقيبة جديد بنسخة معدلة، تستوعب متطلبات العصر الراهن، ومن ضمنها الاستحقاق الديمقراطي، مع ميل بسيط نحو خطاب عروبي واضح، في حنينٍ ونزعةٍ صريحةٍ إلى مزيد من الالتصاق بالمحيط العربي، ولكن، وللمرة الثانية، من دون هوية اقتصادية محدّدة. غياب هذه الهوية بالذات هو ما جعل التونسيين في السابق يديرون ظهورهم لتيار الباجي السبسي. وقيس سعيّد لم يفصح، خلال حملته الانتخابية، عما لديه بشأن هذا العامل الملح. في هذه الحال، قد تعيد تجربة السبسي نفسها، ولن يترك الرئيس الجديد وراءه سوى بعض قوانين حداثوية إلى جانب اقتصاد حائر لا يعرف له حلاً.