وأعلن أربعة عسكريين سابقين في الجيش والمخابرات ترشحهم للانتخابات الرئاسية في الجزائر، المقررة في 18 أبريل/نيسان المقبل، هم العقيد السابق في الجيش سليم لطرش، والعقيد المتقاعد رمضان حملات (سحب ترشحه لاحقاً)، والضابط السابق في المخابرات عمارة محسن، أما رابعهم، أبرز العسكريين المرشحين والأكثر إثارة للجدل، فهو اللواء المتقاعد علي غديري.
ونشر غديري الأحد الماضي رسالة إلى الرأي العام أعلن فيها نيته الترشح، واعتبر فيها أن "الجزائر تمرّ بمرحلة هامة من تاريخها، والتي تتميز بفقدان الأمل، خصوصاً لدى الشباب، إضافة إلى انهيار الدولة والمؤسسات. والنتيجة مرة: دولة غاب فيها احترام القانون، وشيخوخة العنصر البشري، والظلم الاجتماعي، والنظام الريعي، والمحسوبية والرشوة التي تضرب المجتمع في العمق". وأضاف "إذا كان انعدام الأمن يهدد الجزائريين يومياً، فإن استهلاك المخدرات القوية يضاعف اللاأمن والعشائرية والنهب الذي حول النظام السياسي إلى أولغارشية بأتم معنى الكلمة". ودعا إلى عدم "الاستسلام أمام الوضع الذي يهدد الانسجام الوطني" وتعهد "ببناء الجمهورية الثانية وإعادة النظر في النظام السياسي".
قفز اللواء علي غديري، والذي لم يكن معروفاً في الأوساط السياسية ولم يكن من العسكريين البارزين في وسائل الإعلام، إلى سطح الأحداث في شهر مارس/آذار الماضي، عندما تحدثت الصحيفة الفرنسية الإلكترونية "لوموند أفريك" عن لقاء تم بين غديري ومسؤولين أميركيين في السفارة الأميركية في باريس. نفى غديري لاحقاً هذه المعلومات، لكن هذا النفي لم يقنع الكثير من المراقبين الذين توقعوا أن يؤدي غديري دوراً سياسياً في المرحلة المقبلة. وثبتت صحة هذا الرأي في أعقاب طرح غديري لمواقف سياسية في مقالات نشرها قبل أسابيع، انتقد فيها بحدة سياسات ومخرجات حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وأعلن صراحة رفضه لاستمرار بوتفليقة في الحكم. كما طالب غديري جنرالات الجيش بالتدخل لإنقاذ الجزائر وقطع الطريق على الولاية الرئاسية الخامسة لبوتفليقة والحد من هيمنة محيطه المقرب على القرار السياسي.
وعلى الرغم من أن غديري، الذي يفتقر إلى حاضنة سياسية وشعبية في الوقت الحالي كونه غير معروف سابقاً في المشهد ولم يطرح حتى الآن أية تصورات أو برنامج سياسي، إلا أنه بدأ فعلياً في استقطاب وحشد التأييد والمساندة من قبل شخصيات سياسية ومدنية وصحافيين. وبادر إلى تشكيل غرفة عمليات انتخابية، لكن مراقبين يعتبرون أن غديري هو مرشح ما يعرف في الجزائر بـ"شبكة المخابرات القديمة" التي يقودها مدير جهاز المخابرات السابق الفريق محمد مدين، والذي أحاله الرئيس بوتفليقة بشكل مفاجئ إلى التقاعد في 13 سبتمبر/أيلول 2015.
ويحظى غديري بدعم لافت من قبل قائد المخابرات السابق، الذي يستقبل في الأيام الأخيرة شخصيات ورؤساء أحزاب لحثهم على دعم اللواء غديري. كما ينال مساندة قطاع واسع من العسكريين والأمنيين السابقين في الجيش والمخابرات الذين أبعدهم الرئيس بوتفليقة من مناصبهم على فترات، فضلاً عن تأييده من قبل رجال أعمال بارزين ووسائل إعلام مقربة من هذه "الشبكة" التي تدعم غديري على أنه "مرشح القطيعة" مع النظام و"السياسات البوتفليقية".
وبحسب معلومات حصلت عليها "العربي الجديد" من مصادر مقربة من أوساط اللواء غديري، فإن مجموعته التي لا تزال تتمتع بنفوذ داخل الإدارة ومؤسسات الدولة والأمن والجيش، تضغط على الدوائر الحاكمة في السلطة والرئاسة لعدم اعتراض طريقه. ويأتي ذلك على خلفية مخاوف من إسقاط ترشحه للرئاسة بسبب "قانون الصمت" الصادر في أغسطس/آب 2016، والذي يفرض على العسكريين المتقاعدين حديثاً من مناصبهم التزام واجب التحفظ، وعدم المساس بسير مؤسسات الدولة. على الرغم من ذلك تشير تحليلات عدة إلى أن السلطة ستتجنب منع غديري من الترشح، لتلافي منحه مصداقية أكبر أو إثارة مشكلات وقلاقل سياسية داخلية متوقعة.
ويسرّع دفع شبكة "المخابرات القديمة" بمرشحها إلى الواجهة السياسية والانتخابية، المواجهة بينها وبين وقيادة أركان الجيش بقيادة الفريق أحمد قايد صالح، الذي يمثل السند القوي للرئاسة والمتمسك بالشرعية السياسية لبوتفليقة.
وخلال الأسبوعين الماضيين كان جزء من هذه المواجهة قد جرى بشكل علني، عندما وجه قائد أركان الجيش تهديدات صريحة إلى جنرالات "المخابرات القديمة"، وأصدر إلى جانب وزارة الدفاع، خلال الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني الحالي، ثلاثة بيانات تصريحات ضد الجنرالات السابقين الذين وصفهم بـ"الغربان الناعقة والدوائر المتآمرة". وكان أكثر تصريحاته حدة الذي صدر في الثامن من يناير الحالي، والذي قال فيه إن بعض العسكريين المتقاعدين "يضعون أنفسهم أدوات طيعة في أيدي بعض الأطراف التي لا تقيم للمصلحة العليا للجيش أي وزن، وأحرص على التنبيه مرة أخرى إلى تعود بعض الأشخاص وبعض الأطراف، ممن تحركهم الطموحات المفرطة والنوايا السيئة، مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، على إصدار أحكام مسبقة ليست لها أيـة مصداقية إزاء مواقف المؤسسة العسكرية من الانتخابات الرئاسية، ويمنحون أنفسهم حتى الحق في التحدث باِسمها". وأضاف في بيانه "هذا النوع من الأشخاص الذين أعمتهم المصالح الشخصية الضيقة والطموحات المفرطة، يخوضون دون حرج ولا ضمير، في أكاذيب وخرافات تنبع من نرجسية مرضية تدفعهم لحد الادعاء بالمعرفة الجيدة للقيادة العليا للجيش، وبقدرتهم على استقراء موقفها تجاه الانتخابات الرئاسية، وهو ما يشكل انحرافاً جسيماً وخطيراً".
وشدد قائد أركان الجيش على رفض الجيش خدمة أي طرف أو "تلقي أي دروس يُقدمها له أشخاص لا وجود لهم إلا من خلال الدوائر التي تتحكم فيهم". وهدد العسكريين والجنرالات السابقين بالملاحقة القضائية بموجب قانون يلزمهم بالتزام واجب التحفظ صدر في أغسطس 2016.
وفيما لا يعرف إلى أين ستتجه الأوضاع ومآلات هذه المواجهة السياسية ومواقف باقي الأطراف السياسية المؤثرة في الجزائر، كأحزاب الموالاة والإسلاميين والقوى التقدمية، تعيد هذه التطورات إلى الأذهان لكن بشكل مقلوب، السيناريو الذي حدث في انتخابات أبريل 2004، عندما أقنعت قيادة أركان الجيش التي كان على رأسها الفريق محمد العماري، رئيس الحكومة حينها علي بن فليس نهاية 2003، بالتمرد على الرئيس بوتفليقة والترشح باسم الحزب الحاكم جبهة التحرير الوطني، على أساس توفير دعم كوادر الحزب الحاكم ومساندة سياسية وإدارية وشعبية له. لكن جهاز المخابرات بقيادة الفريق محمد مدين في ذلك الحين عكس موقفه في الربع ساعة الأخير من الاستحقاق الرئاسي، ودعم ترشح بوتفليقة لولاية رئاسية ثانية، في مقابل الحصول على ضمانات الحصانة القانونية للجنرالات والقيادات الأمنية من أي تبعات وملاحقات قضائية داخلية أو خارجية عن أزمة التسعينيات (العشرية السوداء)، ضمن قانون المصالحة الوطنية الذي صدر بعد ذلك بسنة في سبتمبر/ أيلول 2005.
واذا كانت قيادة الجيش تدافع، في سياق المواجهة السياسية مع "المخابرات القديمة"، عن منجزات بوتفليقة في تحقيق الاستقرار والمصالحة الوطنية والتنمية وتسليح الجيش، فإن "المخابرات القديمة" والتي تدافع عن مرشحها غديري، تسعى للاستفادة من حالة وهن بوتفليقة وعدم صلاحيته للحكم بسبب وضعه الصحي الصعب والاستياء الداخلي من استمرار الوضع والقلق الخارجي من ذلك أيضاً. كما تحاول الاستفادة من الإخفاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنها تتخوف في الوقت نفسه من حملة مضادة من قبل الرئاسة، تحمّلها فيها مسؤولية مخلفات الأزمة الأمنية في التسعينات وجراحات الجزائريين والإسلاميين الذين يمثلون وعاءً انتخابياً هاماً. كما تخشى من تحميلها قضايا تتصل بملفات فساد مفبركة مسّت عدداً كبيراً من الشخصيات ورجال الأعمال تعرضوا للابتزاز المالي والسياسي من قبل الجهاز الأمني وباستغلال القضاء. وفعلياً بدأت هذه الحملة بتصريح وزير العدل، الطيب لوح، الاثنين الماضي خلال اجتماع لجنة الشؤون القانونية في البرلمان، أن بعض مؤسسات الرقابة ومحاربة الفساد كانت تحت سطوة المخابرات وتعمل خارج إطار القانون.
وبرأي المحلل السياسي عبد الوهاب جعيجع، الذي تحدث مع "العربي الجديد"، فإنه إضافة إلى الرغبة في البقاء أو العودة إلى ساحة التأثير، فإن سبب المواجهة السياسية بين الجيش المنحاز للرئاسة و"المخابرات القديمة" يعود إلى "الضبابية التي تتعامل بها الرئاسة مع موضوع ترشح الرئيس بوتفليقة نفسه من عدمه، ورفض الكشف عن مدى القدرة الحقيقية للرئيس". واعتبر أن هذا الوضع جعل الطرف الآخر (أي المخابرات القديمة) تستعمل نفس الاستراتيجية للتمويه والمغالطة، إذ "دفعت بمجموعة من المرشحين المحسوبين عليها كعلي الغديري الذي لم يكن يوماً سياسياً ولا مفكراً ولا صاحب رأي، ومؤهله الوحيد يتمثل في الصفة العسكرية التي يحملها ورئيس الحكومة الأسبق علي بن فليس".
ووفقا لجعيجع فإن "ذلك يوضح أننا بصدد استراتيجية انتخابية مدروسة في مقابل استراتيجية صاحب القرار السياسي (الرئيس بوتفليقة)، الذي سينهي كل تردد وسيصنع مواقف الكثيرين بترشحه أو بانسحابه".
وفي ظل الحظوظ الضئيلة للقوى والمرشحين السياسيين في إمكانية أداء دور بارز في التنافس الانتخابي، يتوقع أن تشهد الجزائر خلال الـ39 يوماً المقبلة التي تسبق نهاية الآجال القانونية لغلق باب الترشح، ارتفاعاً لحرارة السجال السياسي، بانتظار أن يعلن بوتفليقة عن موقفه بشأن الترشح للانتخابات الرئاسية من عدمه، وتتضح التحالفات بين المجموعات السياسية، ما يعطي لانتخابات أبريل 2019، طابعاً استثنائياً مقارنة مع الاستحقاقات السابقة.