أنهى مرشحو الانتخابات الرئاسية الإيرانية سباقاً محموماً، شهد العديد من المفاجآت خلال فترة الدعاية الانتخابية، وهي التي ستؤثر بطبيعة الحال على آراء الشارع الإيراني، الذي يتوجه، اليوم الجمعة، للاقتراع لصالح رئيس جديد لأربعة أعوام. سجل كثر أسماءَهم في وزارة الداخلية بين 11 و15 أبريل/نيسان الماضي، لكن لجنة صيانة الدستور اختارت ستة من هؤلاء فقط، سمحت لهم بخوض السباق الانتخابي، فيما تم إقصاء عدد كبير من الإصلاحيين والمحافظين على حد سواء.
وسيتولى 160 ألف عنصر أمن مهمة ضمان سير العملية الانتخابية في البلاد، كما أعلن وزير الداخلية الإيراني، عبد الرضا رحماني فضلي، في 63 ألف مركز انتخابي تضم 130 ألف صندوق اقتراع، تحت إشراف 71 ألف مراقب. ويبلغ عدد الناخبين المسجلين 56 مليوناً و410 آلاف، يحق لهم الإدلاء بأصواتهم. وفي حال عدم حصول أحد المرشحين على 50 في المائة من الأصوات، ستشهد الانتخابات دورة ثانية في 26 مايو/أيار الحالي، وسيشكّل ذلك سابقة في إيران، ذلك أن جميع الرؤساء السابقين تم انتخابهم في الدورة الأولى. وسيتمثل التحدي الأهم في المدن الكبرى مثل طهران ومشهد وأصفهان لمعرفة ما إذا كان المعتدلون سيتمكّنون من انتزاعها من المحافظين.
المشهد الانتخابي
الخيارات التي وافقت عليها صيانة الدستور، جعلت التنافس يبدو على شاكلة صراع بين جبهتين، إحداهما معتدلة ضمت كلاً من الرئيس حسن روحاني ونائبه الإصلاحي اسحاق جهانغيري والوزير السابق مصطفى هاشمي طبا، فيما وقف كل من سادن العتبة الرضوية المتشدد، إبراهيم رئيسي، وعمدة طهران محمد باقر قاليباف وممثل حزب "مؤتلفة" الإسلامي مصطفى مير سليم في الجبهة المحافظة، حتى إن لم يتفق ثلاثتهم بالكامل خلال فترة المنافسة.
وتسبّبت الانسحابات من الاستحقاق تدريجياً بوقوف روحاني ورئيسي وجهاً لوجه في النهاية، وأصبحت المنافسة الراهنة تدور بين شخصية معتدلة مدعومة من الإصلاحيين وتدعو للانفتاح وتطبيق المزيد من الحريات، وترتكز على الاتفاق النووي كأبرز الإنجازات، وشخصية ثانية محافظة متشددة ترى في مشاكل الاقتصاد مفتاحاً للوصول إلى قصر باستور الرئاسي، وترتكز في خطابها على مقوّمات الداخل لبناء ما يسمى بالاقتصاد المقاوم، كما تدعو للابتعاد عن الغرب وعدم الالتصاق به، فالمحافظون والشريحة الداعمة لهم لا يثقون أساساً بالقوى الغربية، ويتذكرون تاريخ علاقاتها "الأسود" مع البلاد كما يقولون.
لم يكن رئيسي ينوي خوض السباق في ما مضى، ولاحقه صنّاع القرار داخل التيار المحافظ، لأنهم كانوا يعرفون تماماً أنه شخصية ستحظى بإجماع كل جبهات هذا التيار، والسبب يعود إلى خبرة الرجل بعيداً عن السلك السياسي، فهو رجل قضائي بامتياز، وتسلّم مناصب عديدة هامة للغاية في السلطة القضائية، والأهم من ذلك أنه رجل دين يحظى بمحبة واحترام المرشد الأعلى علي خامنئي. كما يتولى منصباً دينياً في أهم المراقد الشيعية، فهو المسؤول عن مرقد الإمام الرضا، المكان الذي يقصده عدد كبير من الإيرانيين، سواء المتدينين المحافظين منهم، أو حتى من يُحسبون على فئات وتيارات أخرى.
قدّم رئيسي نفسه على أنه السند الأقوى للمحرومين والفقراء، فهو نشأ في عائلة ذاقت طعم الفقر، وساهم هذا الأمر بتعريف الشارع عليه خلال فترة وجيزة لم تتجاوز الأسابيع الثلاثة، ووقفت وسائل الإعلام المحافظة إلى جانبه بالكامل، فاعتبرت أنه يمثّل الخطاب الأصلي للجمهورية الإسلامية.
في المقابل، ما زال الشيخ الدبلوماسي، روحاني، يحظى بشعبية كبيرة، فهو من اعتمد على الشباب كثيراً خلال فترة الدعاية الانتخابية، فقرر هؤلاء أن يكونوا جزءاً من المشهد الانتخابي بعد أن استشعروا خطراً حقيقياً قادماً من جهة رئيسي ومؤيديه. وما نزولهم إلى الشوارع في العاصمة طهران، ليل الأربعاء، أي قبل ساعات قليلة من يوم الصمت الانتخابي، إلا دليل على ذلك، إذ توزعوا في مناطق مختلفة من دون أن يكونوا جزءاً من الحملة الدعائية الرسمية لروحاني، لكنهم حاولوا إقناع الناس بالتصويت للرئيس الحالي، أو على الأقل الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
مفاجآت غير مستبعدة
بات الشارع الإيراني وساسته في حيرة كما بدا من مشهد الأيام الأخيرة، فالاختيار بين الشخصيتين لن يكون بالأمر السهل، ومن ينظر إلى المدن الكبرى وعلى رأسها طهران، سيكون متيقناً من فوز روحاني بالمقعد الرئاسي، لكن من يشاهد الحشود التي كانت في انتظار رئيسي في عدد من المدن الأخرى والمناطق المحسوبة على الأرياف، قد يتراجع عن هذا الاعتقاد.
يعاني المعتدلون من حيرة أكبر إذا ما تمت مقارنتهم ببقية فئات التيارات السياسية، فهي الشريحة التي تضم شخصيات ذات توجه معتدل من التيارين المحافظ والإصلاحي، سيجد هؤلاء أنفسهم أمام خيار انتخاب الشخصية المنفتحة التي ستعطي حصصاً للإصلاحيين في حكومتها بطبيعة الحال، أو خيار العودة للخطاب الأصلي للمحافظين في إيران.
من جهة ثانية، يبدو التحدي أمام روحاني صعباً للغاية، فالشارع الإيراني يُعنى باختيار من يتطرق لمشاكله المعيشية، ويقدّم الحلول الأنسب لها. واستطاع روحاني كبح جماح نسبة التضخم الاقتصادي التي لطالما ارتفعت باضطراد خلال سنوات العقوبات الاقتصادية، لكنه في الوقت نفسه لم ينجح خلال أربع سنوات تقريباً، في حل مشكلتي البطالة والفقر. ومن سيصوت لصالحه في الاستحقاق سيختار منحه فرصة أطول لحل ما تبقى من مشاكل عبر توقيع المزيد من الصفقات مع الخارج، لكن من لا يقتنع بهذا السبيل، فسيكون أمام خيار العودة لإيران المتشددة، ويتفاءل هؤلاء بالخطاب الداعي لتحقيق اكتفاء ذاتي، بعيداً عن الآخرين.
وتثار مخاوف من تدخّلات في الانتخابات، وهو ما عبّر عنه روحاني، الذي دعا الحرس الثوري والباسيج لعدم التدخّل في هذه العملية. ونقلت وكالة العمال الإيرانية عن روحاني قوله خلال خطاب ضمن الحملة الانتخابية في مدينة مشهد "لدينا طلب واحد فقط: أن تبقى الباسيج والحرس الثوري في أماكنهما لأداء عملهما".
وتلقى روحاني خبراً ساراً قبيل الانتخابات، إذ قررت الولايات المتحدة الأربعاء مواصلة تخفيف العقوبات عن إيران بموجب الاتفاق النووي الموقّع في 14 يوليو/تموز 2015. ويندرج قرار الإدارة الأميركية في إطار مواصلة سياسة إدارة باراك أوباما السابقة. لكن مقابل ذلك، أعلنت الخزانة الأميركية في الوقت نفسه، فرض عقوبات جديدة بحق عدد من المسؤولين العسكريين الإيرانيين وشركات صينية مرتبطة بالبرنامج البالستي الإيراني، "في ما يشكل انتهاكاً للقرار 2231 لمجلس الأمن الدولي"، بحسب الوزارة. وقالت الخارجية الأميركية إن "إيران تواصل السعي لحيازة تقنيات صواريخ يمكن تزويدها برؤوس نووية" و"الولايات المتحدة لن توافق أبداً على أن يمتلك النظام الإيراني سلاحاً" ذرياً. ونددت إيران بالعقوبات الجديدة حول برنامجها للصواريخ البالستية. وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الايراني، بهرام قاسمي، على شبكة "تلغرام" أن "الجمهورية الإسلامية تندد بسوء نية الإدارة الأميركية المتمثل بجهودها من أجل الحد من النتائج الإيجابية لتطبيق" الاتفاق الدولي من خلال فرض عقوبات جديدة "أحادية الجانب وغير شرعية".
خارطة القوى الداعمة
كما انقسم الشارع تجاه المرشحين، انقسم الفاعلون السياسيون بين روحاني ورئيسي، فحظي الأول بدعم معتدلين من التيار المحافظ، وبطبيعة الحال يقف الإصلاحيون برمتهم معه، فهو من ساعدهم خلال هذه السنوات على العودة للمشهد تدريجياً، بعد أن غابوا عنه إثر نتائج احتجاجات الحركة الخضراء التي أعقبت الانتخابات الرئاسية عام 2009.
ويحظى روحاني بدعم شخصيات هامة، كالرئيس السابق محمد خاتمي، الذي دعا الجميع للنزول إلى صناديق الاقتراع للتجديد لخطاب الأمل، كما قال. وكما قدّم روحاني خدمة للإصلاحيين، لا يجب تجاهل أن هؤلاء يشكّلون قوة رئيسة استطاعت إيصاله قبل سنوات للمقعد الرئاسي باتباع ذات الاستراتيجية. كما أعلن حفيد مؤسس الجمهورية الإسلامية، حسن الخميني، دعم روحاني بشكل علني، بالإضافة لكثيرين آخرين، فيما لم يُبدِ المرشد الأعلى علي خامنئي أي موقف يحدد لصالح من سيقترع. إلا أن خامنئي ندد بالخطاب حاد اللهجة الذي يسود حملة الانتخابات ووصفه بأنه "غير لائق"، في ما فُسر كانتقاد مستتر لهجوم روحاني على منافسه رئيسي. وقال خامنئي يوم الأربعاء: "بعض التصريحات في مناظرات الانتخابات كانت لا تليق بالأمة الإيرانية. لكن المشاركة (الكبيرة) ستبدد كل ذلك". وكان روحاني قال لمنافسه رئيسي في المناظرة التلفزيونية: "سيد رئيسي... يمكنك أن تشوه سمعتي بقدر ما تشاء. كقاض في المحكمة الشرعية يمكنك حتى أن تصدر أمر اعتقال. لكن من فضلك لا تسيء استغلال الدين من أجل السلطة".
في المقابل، يحظى رئيسي بدعم عدد كبير من رجال دين الحوزة العلمية، ويُجمع عليه المتشددون، وحتى المنتمون لأحزاب تنضوي تحت لواء التيار المحافظ. ووقف إلى جانبه الأمين السابق لمجلس الأمن القومي الأعلى سعيد جليلي، الذي كان ينوي خوض السباق الرئاسي بنفسه، لكنه فضّل عدم القيام بذلك بعد أن اختار التيار رئيسي ممثلاً قوياً، وهو ما يعني أنه سيكون جزءاً من الحكومة المقبلة إذا ما أزاح رئيسي، الشيخ المعتدل عن مقعده.
أهمية خارجية وداخلية
في ظل المشاكل العالقة بين إيران وأطراف إقليمية ودولية عديدة، يُتوقع أن يؤثر هذا الاستحقاق كثيراً على السياسة الخارجية حتى بتعدد مراكز صنع القرار في البلاد. وقد لوحظ خلال فترة الدعاية الانتخابية إجماع كل المرشحين على ضرورة استمرار الاتفاق النووي، بينما اختلفوا في ما بينهم على كيفية استمرار العلاقة مع الغرب، وعلى طرق تحصيل حقوق الإيرانيين والتي ما زالت عالقة على الرغم من هذا الاتفاق، إذ لم تُرفع كل العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد بموجبه.
وبالنسبة لعلاقات طهران مع دول الإقليم، فمن غير المتوقع أن تغيّر شخصية الرئيس القادم شكلها بطريقة جذرية، ولكن بوجود واقع أن روحاني أقرب للغرب من جيرانه العرب، يبقى رئيسي داعماً للتقارب مع الجيران لتطوير العلاقات الاقتصادية وتحقيق الاستقرار، ولكن هذا لا يعني أنه لن يكون متشدداً في العلاقات مع السعودية، وحتى في ما يتعلق بموقف البلاد مما يجري في سورية، وهو ما ستؤثر عليه عوامل كثيرة، غير هوية الرئيس المقبل.
أما تأثير الانتخابات على السياسة الداخلية، سيكون أبلغ بكثير إذا ما تمت مقارنة الأمر مع أهمية ملفات الخارج، فطريقة تعامل روحاني ورئيسي ستكون مختلفة بشكل جذري حين يتعلق الأمر بالداخل، إذ إن تحدي الاقتصاد المتهالك يقف حجر عثرة في وجه كليهما، وكيفية إدارة هذه الملفات ستكون متباينة، وسيحكم سياسة كل واحد منهما إما الخطاب المعتدل، أو المحافظ المتشدد.