انتحاريّو الخبر

15 يوليو 2014
جثة الشهيد حامد شهاب (الأناضول/GETTY)
+ الخط -
 

حصل بهذه البساطة:

    -  إيه يا محمد انتو مناح؟

-       آه الحمدلله، لسه شغالين. 

-       طيّب القصف جنبكن؟

-       آه. مبارح نزلت قذيفة عالطابق اللي فوقنا. الشباب اتوكّلوا.

صمت..

-       توكّلوا؟ كيف يعني؟

-       استشهدوا

-       طيّب انتبه عحالك.

 

هذا المشهد غير السعيد حصل في اليوم الرابع للعدوان. هكذا يعدّ الغزاويون أيامهم، وهكذا يشير الصحافيون في غزة إلى تقاريرهم: "تقرير اليوم الأول، التقرير الثاني في اليوم الأول...". ليس عادياً هذا الذي يعيشه الصحافيون هناك. ليس مشهد المراسل يصاب مباشرةً على الهواء عادياً، ولا منظر سيارة البثّ المباشر تقصف، بمن فيها، عاديّ.

صحيح، حال الصحافيين من حال أهل غزة، وصحيح أنّ شبح الموت، الذي يخيّم على القطاع، احتّل الهواء كلّه. لكنْ، هذه المرّة، لننظر جيداً إلى المشهد: وكالات الأنباء، وفي إطار تصويرها للوضع العام في القطاع، تقول "الشوارع خالية من المارة، وحدهم المسعفون والصحافيون في الشارع".
في هذا الشارع الخالي نفسه، يقف المراسل/المراسلة، يرتدي سترة وطاسة لا تقيان حتماً من صواريخ الاحتلال، لكن لا يهمّ، فعنصر الأمان النفسي يساعد. الرسالة المباشرة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة... وحده هو وزملاؤه في فريق العمل، يعرفون خطورة ما يفعلون. وحدهم يعرفون أن شظية من قذيفة، قد تودي بحياتهم جميعاً، ووحدهم يعرفون أنّ دورهم نوع آخر من المقاومة.

الكاميرا المرتجفة، التي تصوّر لنا البيت المدمّر، وتلك التي تلتقط انتشال جثة طفل من تحت الركام، هي التي تخبرنا القصة غير القابلة للتكذيب. هذه الكاميرا أيضاً أدخلت الإعلام الغربي عصراً آخر: ما زالوا يكذبون، نعم، ما زالت رواية "الضحية الإسرائيلية" مسيطرة نعم... لكن في المقابل ماذا يقولون عن صور الكاميرا المرتجفة نفسها؟ لا يستطيعون إنكارها، وإن أنكروها، لن يصدّقهم أحد. انظروا إلى تجربة دايان سوير الأخيرة على ABC.

هؤلاء الصحافيون حجزوا لنا مكاناً في الإعلام. نحن الذين بقينا، لسنوات، مجرّد جثث إضافية تسقط في تعداد أبدي لضحايا "حرب البقاء الإسرائيلية".

لا تصدّقوا الرواية السخيفة، التي تقول إن "مراسل الحرب معتاد على الحروب". لا أحد يعتاد على الموت، ولا أحد يعتاد على رائحة الجثث وصور وجوه الأطفال المشوهة بالصواريخ.

في غزة، لنا من ينقل الصورة والصوت، لنا من يوثّق الجريمة، لنا أشخاص يقفون متماسكين مهما اشتدّ القصف، فقط ليضعونا في الصورة... لهؤلاء أطفال وعائلات وأهل، لهؤلاء حياة أخرى، يمكن لها، إن أرادوا، أن تدور بأمان خارج القطاع. ومع ذلك هم هناك في غزة، وهم هنا على شاشتنا، نحن الجالسين في التكييف نهزّ رؤوسنا تأثراً عند مشاهدة صور الجثث.

لهؤلاء، نحن مدينون بالكثير، للذين يظهرون على الشاشة، ولهؤلاء الذين يقفون خلفها: مصوّرين، وتقنييّن، وعمّال إضاءة، ومغامرين يقودون سيارات البثّ المباشر... يستشهد شاب منهم، ولا يتوقفون، ربّما يبكون قليلاً أو كثيراً، ربما ينهارون، يخافون عندما تمرّ صور أحبائهم في خيالهم. كل ذلك لا نراه، لكنه موجود. حيّوا المقاومة الغزاوية، حتماً، ولكن حيّوا أيضاً صحافييها، فغزّة موجودة على خريطة الإعلام، اليوم، لأنهم موجودون.

 

المساهمون