اليوم أفهم معنى أثر الفراشة

21 مارس 2019
من جزيرة جربة التونسية
+ الخط -

الأربعاء 13 آذار/ مارس 2019. أحتفلُ شخصيّاً بعيد ميلاد الشّاعر الفلسطيني محمود درويش الثامن والسّبعين.

كنتُ على بعد آلاف الكيلومترات منه عندما توفّي على فراشه بالمستشفى في هيوستن الأميركيّة. مات محمود درويش صبيحة التاسع من أغسطس/آب 2008 بالتّوقيت المحلي لهيوستن وبعد الظّهر في نفس اليوم بالتّوقيت المحلي للسّواحل المتوسّطيّة الّتي شهدت ولادته. لكن هو نفس الرّجل كما هي نفس الميتة. تلك ميتته، لا تلك التي اختارها ربّما، بل تلك التي حلُمَ بها. لقد مات يوم سبتٍ كما تنبّأ في "إجازة قصيرة"، واحدة من قصائده الصّادرة في آخر كتاب نشره وهو على قيد الحياة، "أثر الفراشة"، قبل رحيله بأشهر قليلة:

"صدّقتُ أني متّ يوم السّبت،
قلت: عليّ أن أوصي بشيء ما
فلم أعثر على شيء...
وقلت: عليّ أن أدعو صديقاً ما
لأخبره بأنّي مِتّ
لكنّي لم أجد أَحداً...
وقلت: عليّ أن أمضي إلى قبري
لأملأه، فلم أجد الطّريقَ
وظلَّ قبري خالياً منّي".

تنبّؤ فظيع حقاً، ولكنّ الأفظع بالنسبة إليّ كان أن أسمع خبر وفاة محمود درويش في بداية المساء، عبر رسالةٍ إلكترونيّة جماعيّة وُجّهت إلى كل المشاركين في مهرجان أصوات المتوسّط بلُوديف (المُقام من 19 إلى 28 يوليو/تموز 2008). نعم، رغم ذهولي، تبادرت فجأة إلى ذهني الأبيات السّابقة وهاته الأبيات اللاّحقة الأكثر فظاعة حيث مجازر صبرا وشاتيلا والتي يعطي فيها درويش لصبرا صبغة إنسانيّة أمام الجلاد، جنديّ الكتائب، المُدعَّم من قبل الصّهيوني الذين يشاركه نفس الصفة، الفاشي:

"ويواصل الفاشيّ رقصته ويضحك للعيون المائلة
ويجنّ في من فرح و صبرا لم تعد جسداً
ركبها كما شاءت غرائزه، و تصنعها مشيئتُه
ويسرق خاتما من لحمها، و يعود من دمها إلى مرآته
ويكون – بحر
ويكون – بر
ويكون – غيم
ويكون – دم
ويكون – ليل
ويكون – قتل
ويكون – سبت
وتكون – صبرا

صبرا – تقاطع شارعيْن على جسد
صبرا – نزول الرّوح في حجر
و صبرا– لا أحد
صبرا – هويّة عصرنا حتّى الأبد...".

غريبة هي بقيّة ما عشتُ في ذلك المساء وسيكون من غير اللائق الحديث عنها في هذا المقام. أفضّل الخطاب منذئذٍ على السّرد فهو يبدو لي اليوم الوحيد القادر على الإجابة على احتياجات القضيّة. القضيّة التي يدافع عنها الشّاعر نفسه: "عندما يذهب الشّهداء إلى النّوم أصحو وأحرسهم من هواة الرِّثاء"، كما كتب في "ورد أقل". بالفعل، لم ينضَب نبع المدائح تجاه درويش حيّاً، فلن ينضب أيضاً بعد موته، إذن، نبعُ المراثي. أتمنّى، من جهتي، أن يُقرَأ بعد موته أكثر ممّا وهو حيّ لأني متأكّد أن كلّ المتملّقين الذين يتباهوْن بترجمته، الذين يستشهدون به دون انقطاع وحتّى الذين يكتبون عنه، لم يقرَؤُوه، على الأقلّ ليس كلّ أعماله من الألف إلى الياء.

وهكذا، عند قراءة الكتاب الأخير لمحمود درويش إثر نشره في يناير/كانون الثاني 2008، لم أنتبه جيّداً ولكنّي اليوم أفهم معنى "أثر الفراشة" ذلك الذي اختلط في البداية عندي بعلامة الفراشة. في الفيزياء، "أثر الفراشة"، حسب منجد لاروس الصّغير (منجد روبرت الصّغير لم يتطرّق إليه) هو "صورة اقترحها لورنس لفهم الظّواهر الفيزيائيّة المرتبطة بالخَواء. وحسب هذه الصّورة، فإن خللاً بسيطاً في نظام معيّن يمكن أن يحدث تأثيراتٍ هامّة وغير مرئيّة، وضرب مثلاً الهواء الذي يُحدثه خفقان أجنحة فراشة بإمكانه أن يسبّب عاصفة على بعد آلاف الكيلومترات من هناك.

"يجب أيضاً اتّباع هذا الطريق الطّويل، الوعر والملتوي لولوج هذا الشِّعر الذي يميل البعض إلى سجنه في نِحَل وشعارات بالية. هؤلاء حقاً كنحلهم وشعاراتهم البالية، لكن لا فلسطين ولا شاعرُها الكبير تشكو من هذه البوطقة. إنّ لهما حظّاً - وهما يستحقّانه لأنه "يفرض" نفسه - في التّجدّد لا فقط بالتّأقلم مع زمنهما، ولكن أيضاً بالمجازفة في التّقدّم على هذا الزّمن وبكونهما السّبّاقيْن. ثريّة، خصبة ومتعدّدة هي فلسطين وقد حظيت بالشاعر الّذي تستحقّ، لأنّ من قال: "اللغة تورَث كالأرض"، لم يكتفِ باللّغة التي نقلتها إليه أمّه المرحومة حوريّة. هو الذي انتُزِعت منه أرضه افتكّ لغته لكي يعيد أرضه وأرض شعبه.

وقد نجح درويش أكثر من أيّ شاعر فلسطيني وعربي آخر في تحقيق هذا التّوازن الصّعب بين الشّعر والسّياسة، هذا ما مكّنه من أن يلقى الاعتراف والحفاوة في كل مكان كشاعرٍ حقيقيّ، على غرار البعض من نُظرائه من الشّعراء الكِبار - ماياكوفسكي، ريتسوس، ريني شار، باول تسيلان، ديرراك والكوت على سبيل المثال لا الحصر - وهم شعراء نجحوا أيضاً في جذب كفة الميزان لصالح الشّعر، دون التخلّي عن القضيّة التي تبنّاها كلّ واحد منهم.

ومن هنا هذه الشّهادة الرائعة من طرف الشّاعر السّويسري فيليب جاكوتيه: "أتألّم من أجل شعب مُهان. صوت شاعره محمود درويش يؤثر فيّ بعمق. ثمّ، في نهاية احتشاد باريسي لأجل فلسطين، عندما بسط متعصّبون راية متّسخة بكتابةٍ رذيلة "الموت لليهود"، أصطدم من جديدٍ بالمستعصي". تؤثرُ فيّ هذه الكلمات لأنّها تضرب ثلاثة عصافير بحجرٍ واحد: أولاً لأنّها تعترف بصوت، صوت محمود درويش الذي يحمل صوت شعبٍ بأكمله؛ ثمّ، لأنّها تنادي بالاعتدال والتّحاور الممكن دوماً رغم التّعصّب الذي يطغى على هذا الفريق أو ذاك؛ وأخيراً لأنّها تشهد بضرورة الشّعر وأهمّية الشّعراء وبالدّور الذي يمكن أن يضطلع به الشّعر والشّعراء معاً في حلّ "المستعصي".

يبدو لي هنا أنّنا نضع إصبعنا على هذا الشّيء صعب التّسمية والذي تعتمد عليه شعريّة محمود درويش، الذي، وهو يتحدّث عن قهوة أمّه أو جواز سفره أو وهو يحكي أيضاً عن اليومي في حالة الحصار، يفرض إيقاعه الشّخصي على الكلمات والأشياء والعالم. إن أرجع البعض ذلك إلى الدّقة أو إلى التّمرّس الشّعري، فإني أتشبّث بإرجاع الفضل إلى الحضور الذهني والحسّ المرهف، باختصار إلى الفصاحة لأنّ الغضب العادل، الشّعر الحقيقي والحماسة الصّادقة لا يُعْميان بل يوقظان. أن تسمّي الأشياء ليس أن تَقْتُلَ. أن تسمّي هو أن توقظ الرّوح الّتي تكمن في كل شيء. أن تسمّي هو أن توقظ، كما أجاد محمود درويش القول، في قصيدته الأخيرة الّتي تحمل عنوان "لاعب النّرد" والّتي قرأها بصوتٍ عالٍ في رام اللّه في بداية يوليو/تموز 2008، شهراً قبل رحيله:

"هكذا تولد الكلماتُ. أُدرِّبُ قلبي
على الحبّ كي يَسَعَ الورد والشّوكَ...
صوفيَّةٌ مفرداتي. وحسِّيَّةٌ رغباتي."
شكراً لك إذن أيّها الشاعر على اليقظة.


* شاعر وكاتب من تونس

دلالات
المساهمون