اليهود والعرب والغرب
تاريخ اليهود في أوروبا هو تاريخ اضطهاد وطرد وتمييز واحتقار؛ هذا ما تسجله، بوضوح، الوقائع التاريخية الثابتة والصحيحة. فعندما ثارت الغوغاء، وأحرقت روما في عصر نيرون في سنة 64 ميلادية، أُلصقت التهمة باليهود، وقُتل مَن قُتِلَ بهذه الفِرية. وبعد هذه الحادثة بست سنوات، قضى الإمبراطور الروماني، فسبسيان، ثم ابنه تيتوس، على اليهود في القدس، وطُردوا منها. ثم جاءت تعاليم القديس بولس، وهو المؤسس الحقيقي للمسيحية، ففصلت المسيحية عن اليهودية، وصار الصليب رمز المسيحية، بدلاً من السمكة، في إشارة حاسمة إلى جريمة اليهود التي ارتكبوها بحق المسيح. وعندما تبنى الإمبراطور قسطنطين المسيحية ديناً للدولة، أصدر بين الأعوام 306 و337 قوانين ضيّقت على اليهود حياتهم، أيما تضييق. وفي سنة 439، أصدرت الإمبراطورية البيزنطية قوانين تحرِمُ اليهود المواطنة، وتَوَلّي المناصب والوظائف. وفي أثناء الحملة الفرنجية الأولى التي دعا إليها البابا أوربان الثاني في سنة 1095، نظم بطرس الناسك مذابح ضد اليهود في بعض مناطق أوروبا. وفي سنة 1210، فرض البابا إينوسنت الثالث عليهم ارتداء ملابس خاصة، تميزهم من المسيحيين. وفي سنة 1290، أصدر الملك إدوارد الأول مرسوماً يقضي بطرد اليهود من بريطانيا. وفي سنة 1306، طرد الملك فيليب اليهود من فرنسا، فتدفقوا على إسبانيا وبعض البلدان العربية. وبين الأعوام 1347 و1350، تعرضت أوروبا لوباء الطاعون الذي اجتاح مناطقها كلها. واعتقد المسيحيون أن الوباء صنعه اليهود بتسميم الآبار، فأُعدم عدد كبير منهم. وفي 1401، طُرد اليهود من الراين وبافاريا بمرسوم ملكي. وفي 1495، بعدما طُرد آخر الملوك العرب من غرناطة، طُرد اليهود معه من إسبانيا ثم من البرتغال. وكان أول من أسس نظام الجيتو مجلس بلدية البندقية في سنة 1516، وفُرض الجيتو على يهود فرانكفورت في 1616، وعلى يهود فيينا في 1624، وعلى يهود روسيا في 1795، ثم نظمت المذابح ضد يهود روسيا في 1881 غداة محاولة اغتيال الامبراطور ألكسندر الثاني، ثم في 1905، بعد هزيمة روسيا في الحرب اليابانية – الروسية في سنة 1904... وهكذا حتى المذابح النازية في سنة 1943. وأبعد من ذلك، تمكن اليهود الذين كانوا أقلية مهانة في العالم العربي من إقامة دولة قوية ومنيعة في قلب هذا العالم، وهذا أمر قَلَب الأحوال في بلاد الشام ومصر رأساً على عقب، وأوجد تحدياً لا عهد للعرب به، منذ حروب الفرنجة.
* * *
هذا المسرد التاريخي معروف، ولا فائدة منه إلا العبرة، فعلى الرغم من هذا التاريخ الدموي، وعلى الرغم من الكراهية المسيحية لليهود عقيدياً، إلا أن اليهود تمكّنوا من كسب عقل الغرب، وصاروا جزءاً من الثقافة الأوروبية والأميركية، ولا سيما في الأكاديميا والصحافة والسينما. ولم يأتِ هذا المكسب هكذا عفو الخاطر، بل جراء نشاطهم الفكري والفني والسياسي والمالي.
أما نحن العرب، فنجحنا في تنفير العالم كله من أسمائنا وهيئاتنا وأفعالنا، لأن العالم لم يرَ من العرب إلا أبو حمزة المصري وأبو قتادة الفلسطيني وأبو بكري السوري وعنتر الزوابري وأبو مصعب الزرقاوي وأبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني وداعش والنصرة وقطع الأعناق وخرق الأجساد بالرصاص واستعمال السيوف في تنفيذ القصاص، وجزّ الرقاب وتوزيع السبايا على الأصحاب والأحباب. وهذا الهول كله أهال التراب على أسماء عربية لامعة، اشتُهرت ثم انطفأت، بظهور هذه الضباع الهمجية التي ما برحت تبيد كل حياة ورواء في العراق والشام وأرض الكنانة وأكنافها.