تمكن اليمين الإسرائيلي، خلال عقدين من الزمن، وإن كان بمساعدة من اليسار الإسرائيلي، وحزب العمل تحديداً، من تخليص نفسه من عقدة "الذنب" والمسؤولية عن اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني العام 1995 بعد أن أطلق الناشط اليميني، وطالب كلية الحقوق في جامعة بار إيلان التابعة للتيار الديني الصهيوني، يغئال عمير، عدة رصاصات في ختام مهرجان سياسي في تل أبيب، لدعم مسيرة أوسلو.
وتجلى هذا التحول في موقف اليمين الإسرائيلي، وتحديداً الليكود، من خلال تجرؤ رئيس الائتلاف الحكومي، عضو الكنيست، دان بيطون، الذي يحظى بعلاقة متينة مع رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، على الإعلان، في حولون أول من أمس، أن اغتيال رابين، على يد عمير، لم يكن اغتيالاً سياسياً. ومع أن هذا التصريح أثار، للوهلة الأولى، ردود فعل مستنكرة في صفوف اليسار الإسرائيلي تحديداً، إلا أن صمت نتنياهو من جهة، وحقيقة عدم تنظيم مراسم رسمية لإحياء ذكرى مرور 21 عاماً على اغتيال رابين، مقابل إحياء ذكرى داعية الترانسفير اليميني، رحبعام زئيفي، في الكنيست قبل أسبوع، بمشاركة نتنياهو، الذي دعا في تلك المراسم، إلى التفريق بين ما قدمه زئيفي، الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي، وقائد المنطقة الوسطى فيه، وبين الاتهامات التي وجهت له، والشهادات التي أدلت بها عدة إسرائيليات، بأنه اعتدى عليهن جنسياً، تبين حجم الثقة بالنفس التي بات يتمتع بها اليمين الإسرائيلي، ونتنياهو نفسه في كل ما يتعلق بملف اغتيال رابين والمسؤولية عنه، لا سيما وأن ابنة رابين، داليا رابين، كانت قد أعلنت يوم الجمعة الماضي، في المراسم البديلة التي نظمها مركز رابين، والتظاهرة التي نظمها حزب المعسكر الصهيوني، مساء السبت، أن التحريض الذي سبق جريمة القتل لا يزال مستمراً لغاية اليوم.
والواقع أن التحولات التي شهدتها إسرائيل، وحقيقة سيطرة اليمين على الحكم منذ اغتيال رابين وصعود نتنياهو، بعد تغلبه في العام 1996 على منافسه شمعون بيريز، بفارق صغير نسبياً، بلغ 27 ألف صوت، بينت منذ البداية أن جريمة الاغتيال "مغفورة" من قبل أوساط واسعة في إسرائيل، بدليل تمكن نتنياهو من تقليص الفارق بينه وبين بيريس، من 16 في المائة مع بدء المعركة الانتخابية إلى التفوق عليه إلى أقل من نصف في المائة. وأثارت تصريحات بيطون مجدداً الجدل حول اغتيال رابين، ليس فقط من مجرد حاجة إسرائيل إلى الخوض مجدداً في تصنيف الجريمة، وهل الاغتيال كان سياسياً ومدفوعاً بحسب ما اعترف به القاتل، يغئال عمير، بإسقاط الحكومة التي تريد التنازل عن أجزاء من "أرض إسرائيل" خلافاً لما تنص عليه التوراة، أم لا، وإنما أيضاً لفشل ما يسمى بمعسكر اليسار الإسرائيلي، ومركز رابين نفسه، الذي تديره ابنته داليا، في توظيف الجريمة بأبعادها السياسة، للعودة إلى الحكم بشكل مستقل.
ويمكن القول، بعد أكثر من 20 عاماً من اغتيال رابين، أن المشهد في إسرائيل انقلب رأساً على عقب، فبعد أن دخل اليمين الإسرائيلي، خصوصاً قطاع المستوطنين من التيار الديني الصهيوني، غداة الجريمة في حالة دفاع عن النفس والانكماش نحو الداخل، آخذاً دور الضحية ومطالباً بعدم تحميل كل معسكر المستوطنين خصوصاً، ومجمل اليمين ضمنه الليكود وزعيمه، بنيامين نتنياهو، مسؤولية عملية الاغتيال، وحصر المسؤولية بالقاتل، ومن أعطاه من الحاخامات اليهود فتوى تجيز اغتيال رابين، إلى حالة هجوم علني وسافر، لا يتردد فيه اليمين اليوم، بوصف اتفاقيات أوسلو، وكل من رابين وبيريز بأنهما مجرما أوسلو، وبالتالي إعطاء شرعية بأثر رجعي لعملية الاغتيال. لكن هذا التحول في المشهد والمواقف، رغم محاولات حزب العمل، ممثلاً بزعيمه اليوم، يتسحاق هرتسوغ، النبش في التاريخ، واستحضار عمليات تحريض اليمين ضد رابين، التي قادها الليكود وعلى رأسه نتنياهو، كما تجلى في أكثر التظاهرات عنفاً وتحريضاً ضد رابين، قبل عملية القتل بأسبوع، في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 1994، في ميدان "صهيون" في القدس الغربية، حيث رفعت صور رابين بالزي النازي، فيما كان نتنياهو وقادة الليكود يقفون على شرفة مقابلة ويخطبون بالمتظاهرين، لم يأت من فراغ ولم يتحقق بخطوة واحدة. فقد حدث هذا التطور شيئاً فشيئاً، أولاً بفعل التقادم، وميل الإسرائيليين إلى التخلص من عقدة "قيام يهودي بقتل رئيس حكومة إسرائيل"، وثانياً تخلف معسكر اليسار في إسرائيل عن مواجهة المد الفاشي الذي مثلته جريمة الاغتيال، بحجة محاولات توحيد "البيت الإسرائيلي".
ويمكن في هذا السياق رصد محطات مهمة على هذا الطريق، تبدأ من الأسابيع الأولى التي أعقبت عملية الاغتيال، وتكرست عملياً مع قرار بيريز، الذي خلف رابين في رئاسة الحكومة، تبكير موعد الانتخابات ولكن مع تغييب عملية الاغتيال كلياً عن حملته الانتخابية، وذلك بفعل رغبته آنذاك، بأن يفوز في الانتخابات "بقواه الذاتية، وبحق وليس بصفته وريث رابين" أو بفضل الظروف المأساوية التي أوصلته لهذا الموقع، بعد أن كان قد خسر في الانتخابات التمهيدية أمام رابين. وإلى جانب هذا التغييب، فقد تمكن معسكر المستوطنين، ممثلين بحزب "المفدال" وزعامته التاريخية آنذاك، رحبعام زئيفي ويتسحاق هليفي، من الادعاء بأن معسكرهم قد أجرى عملية حساب مع النفس، وأنهم يدعون إلى حوار مع اليسار والعلمانيين في إسرائيل. وكانت المفاجأة في حينه أن من مد طوق النجاة لجمهور المستوطنين، هو النائب عن اليسار الصهيوني، وأحد قادة حركة السلام الآن، في حينه، دادي تسوكر، عندما أطلق مع هليفي حملة دعائية تحت عنوان "تساف بيوس" الذي يعني أمراً عسكرياً بالمصالحة، على غرار الأمر العسكري للتجنيد "تساف غيوس".
ولم يتوقف الأمر، عند هذا الحد، فبعد أن ظل نتنياهو في سنوات حكمه الأولى، متردداً في كل ما يتعلق بإرث رابين وملف اغتياله، طرأت تحولات جذرية على مكانته، بعد أن وافق حزب العمل بقيادة إيهود باراك، ولاحقا هرتسوغ، على المشاركة في حكومات مع الليكود، سواء التي ترأسها آرييل شارون (وكانت المفارقة أن داليا رابين شاركت في تلك الحكومة)، بداية أم تلك التي تمكن نتنياهو من تشكيلها في 2009 و2013.
وطيلة هذه الفترة لم يبذل حزب العمل، أو "المعسكر الصهيوني" كما يسمى اليوم، أي جهد في إبراز دور نتنياهو في التحريض الذي سبق اغتيال رابين، واكتفى بعبارات ضبابية. وكانت المفاجأة، التي منحت عملياً الشرعية الكاملة لنتنياهو، في تخليصه من أية مسؤولية، في العام 2009 عندما اجتمع نتنياهو رسمياً مع نجل رابين، يوفال رابين، عشية الانتخابات النيابية للكنيست، وبرر فيها نجل رابين لقاءه بنتنياهو، بأن المصلحة الإسرائيلية توجب تشكيل حكومة وحدة وطنية، وأن نتنياهو التزم أمامه بالسعي إلى تشكيل حكومة واسعة وموحدة من كافة الأحزاب الصهيونية. وشكلت مشاركة حزب العمل في حكومة نتنياهو الثانية، في العام 2009، عملياً المسمار الأخير في نعش محاولات توجيه أو تحميل نتنياهو أية مسؤولية عن التحريض على قتل رابين. أخيراً فإن دعوة أوري أريئيل، وزير الزراعة الحالي وأحد قادة "المفدال" والمستوطنين، في أوج عمليات التحريض على حكومة رابين، من خلال الإذاعة الإسرائيلية إلى تنظيم مراسم رسمية وغير حزبية، وقوله إنه كان مستعداً لتقديم تمويل على حساب ميزانية وزارته لإحياء المراسم الرسمية لو توجهوا له، تبين حجم الانتقال لدى جمهور اليمين، من حالة "الخوف" من أي ذكر لرابين واغتياله، إلى حالة الاستعداد للمشاركة في إحياء ذكراه، طالما كانت الطقوس مجرد طقوس رسمية.