اليتيمُ في حقلِ الصوفي

14 مايو 2015
+ الخط -

لم نكن أغنياء، خصوصاً نحن الذين فقدنا أمهاتنا مبكراً، وتحولنا إلى أيتام في وقت تحول فيه آباؤنا إلى أزواج أمهات، كنت أحد هؤلاء، لكن بلا متانة في الوجه أو تلطٍ خلف مظلومية اليتم، بل بخجل شديد، كان يصل أحياناً حدَّ المرض، فمثلاً أخشىَ الاختلاط بمجتمع من الأطفال يفوق الثلاثة عدداً، ويحمّرُ وجهي إذا كلمتني امرأة حتى لو كانت جدتي التي ربتني بعد فقدي ليد الأم نهائياً، اكتسبت مهارة مبكرة في الكتابة أو ما يشبهها، وفي الرسم، أيضاً، غالباً كنت أرسم بطةَ برأس مقطوع، لصعوبة رسم الرأس لدي، وأرسم نهراً وشجرة بعيدة ونسوة يحملنَ جراراً فخارية، أي أنني كنت أرسم ما لم أره حقيقةً، وحَسّنتُ من خطي كثيراً، وتحولتُ إلى كاتب رسائل من العشاق الفاشلين إلى حبيباتهم الفاشلات، ومن الأهل إلى غيّابهم، وهكذا دخلتُ قلوبَ الآخرين من بوابة حاجتهم لي، ومع هذا الحبِّ والاهتمام، فقد بقيتُ أو لأقل: أبقيت على عدم ثقتي بنفسي.

تنشأُ علاقة حب على مقعدِ الدراسة الابتدائية، الفتى المهزوز الذي في داخلي واليتيم، يحول بيني وبينَ ما يفعلُه العشاق، فأهوّم لوحدي، وأسأل من لهُ دربة: "ما عليَّ أن أفعل؟"، كانت كل تجربة لي عالماً بذاتهِ ومدهشة كفاية، فهناكَ من يلتقي بامرأته في البراري وبين الزروع، فيكسبونَ حنق أهل المزروعات لتكسيرهم الزرع وهم يجعلونه فراشاً لهم والسماء غطاء، وبعضهم، ليلاً، يقفزُ الجدران، كانت مشاركتي في تلك المعارك"لوجستية"، أحرس بوابة الزقاق أو أرفعَ أحدهم ليكون على أعلى جدار الحوش، وإلى ذلك الوقت الذي أرافقُ فيهِ العشاق، لم أكن لأتحسس مكامني الحساسة، لأستثيرها أو لم تشكلَّ لي هاجساً لابد من إرضائهِ، حتى أن سألني أحدهم، ما إذا كنتُ أحتلمَ أو أمسّد بيدي عضو الخصوبة، وراح يشرحُ لي عن (النعمة) التي سقطت فيها فيما بعد. كانت لائحةُ اللاءات في حياتي كبيرة وفضفاضة عليَّ، إذ تمَّ النظر إليَّ كرجل، بينما لم أكن بعد أتحسس أعضائي التناسلية لأميزَّ بينها وبين ثمرة الخيار.

دَرَج أهلي الجدد على تربيتي خير تربية، لم يكونوا مثقفين، ليرعوا موهبتي، وبما أنهم أميونَ وفقراء، ذهبت نصيحتهم إلى ألاَّ أسرق أو أعتدي، أو أنظر في طعام أحد أو عرضهِ بشهية، ولهذا صرتُ أقنعُ بالمتوفر، وأحبس رغبتي في طعام أراه أو لباس أو لعبة، وأتظاهرُ بكل ما أملك لأبدوَ متماسكاً "وعزيزَ نفس" لا تهزه البهارج ممّا يتوفر لغيري وينقطع عني، كما أني لم أكن جباناً، لكن كل غزوات أقراني في بساتين العنب والرمان المتوفرة في قرية(خراب العبد) كانت تتم دوني، فيعودون هم وشليل ثيابهم مليء بتلك الثمار الطازجة والشهية لسببين، أولاً لأنها تقطف من الشجرة مباشرة، وثانياً لأنها قطفٌ من المحرّم، بينما أعودُ أنا بخسارة مضاعفة فلا الثمرة ولا الشعور بالتعدي على المحرّم.

مرةً عندما كنا نذهب إلى البُركِ الاصطناعية في (مرجان) نمرُّ بحقل(الصوفي محمود) للبطيخ والعجور والشمام، كانَ، دائماً، يظهر الصوفي، ليركض خلف سرّاق حقلهِ كما لو أنه جني خرجَ من الأرضِ، ولأني آخذ بنصيحة جدتي(الخنسا) أبعدُ عن الفتية كيلا أوسمَ بجرمهم، لكن الصوفي محمود الذي ركض خلف من حملوا البطيخ والشمام ونفذوا، جعله ليرتدَّ إلي كحلقةٍ أضعف، وكان لابد من إفراغ شحنة الغضب بكفوف سريعة على رقبتي وفرك شديد لأذني، وكنت أصغر من أن أردَّ عليه، وكنت، أيضاً، أحمل" احترام الكبير والعطف على الصغير"، المهم، أنَّ الصوفي بعدُ هدأَ ورأى فيَّ حَملاً وديعاً، سألني من أنتَ، فأخبرتهُ، وأضافَ: ابن المرحومة عبطة؟ قلتُ نعم، ومنذ تلك القصة المدفوعة الثمن، جعل الرجل لي حصة في حقلهِ، بينما الفتية الأشرار، ينظرون بحسد ولؤم إلى التواطؤ الخفي بيني وبين خالي الصوفي محمود.

بعدَ كلِّ هذه السنوات التي مرّت عليّ كحافلة قطارات سريعةٍ، تولّدتْ لديَّ أسئلةٌ أصيلةٌ، أعيدُ ترتيبها في كل مكان أصل إليهِ، هي أسئلة لا ترتبط بمكان محدد أو زمان، عابرة، ومتفوقة على الشخص الذي كان مهزوماً في داخلي وانتصر لصالحي، ماذا لو كنتُ أنا من يسرق بساتين القريةِ وماذا لو كنت أنا من ينكّلُ بحقل الصوفي محمود، وماذا لو كنت أنا من يكذّب الآخرين لأنهم كاذبون حقاً، وماذا لو كنت أنا من أرشدَ الأطفال الجهلاء إلى عادة تشهي امرأة محددة بذاتها، وماذا.. وماذا؟.

تُرىَ أما كانَ ذلك أجدىَ نفعاً من شخص، يكتبُ ويشرب القهوة ويحبُّ أنثى بعيدة، ويقرأُ القصيدة والأبراج، ولا يقوى على نسيانِ قرينهِ الذي كان الحالم واللاسارق والخجول واليتيم الذي نسي بطيختهُ في حقل الصوفي!.


(سورية)

المساهمون