وذكرت الأمم المتحدة، مساء الخميس، أن "أعمال البناء التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي حالياً، جنوب "الخط الأزرق" (الفاصل بين لبنان وإسرائيل)، "لا تقع في المنطقة الحساسة" من الحدود بين البلدين. وقال نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، في مؤتمر صحافي في نيويورك، إن "قيادة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل) تواصلت بشكل كامل مع الطرفين الإسرائيلي واللبناني من أجل إيجاد حل مشترك لهذه القضية". وأضاف حق أنه "من الأهمية بمكان أن يستفيد الطرفان من ترتيبات الاتصال والتنسيق التي وضعتها يونيفيل لإيجاد حلول ترمي إلى منع الانتهاكات وتقليل التوتر والحفاظ على الاستقرار بينهما".
البحر مدخل للبر
وبحسب مصادر سياسية وأمنية لبنانية متقاطعة تحدثت لـ"العربي الجديد"، فإن "لبنان غير معني بأي تفاوض قائم على المفاضلة بين حقه في البر وحقه في البحر"، وأن "الموقف اللبناني السياسي والعسكري موحّد حول الدفاع عن حقوق لبنان السيادية على الأراضي المُتحفظ عليها وعلى حقوقه الاقتصادية في البحر". عند هذا السقف تندرج خيارات لبنان، الذي يتعامل مع الولايات المتحدة كدولة صديقة قدّمت دعماً عسكرياً للجيش بقيمة مليار ونصف المليار دولار منذ عام 2006 وحتى اليوم، إلى جانب الدعم الاقتصادي والمتواصل في مختلف المجالات الإنمائية. وحمل مساعد وزير الخارجية الأميركي، ديفيد ساترفيلد، خلال زيارته لبيروت في الأيام الماضية، اقتراحات مبدئية لحل الخلاف البحري، "مع اعتبار النزاع البري بحكم المنتهي، لأننا طلبنا من إسرائيل عدم بناء الجدار في النقاط المتحفظ عليها لبنانياً".
أما في البحر، فإن المسعى الأميركي ينطلق من محاولة قسمة "الفرق الجغرافي" بين الترسيمين اللبناني والإسرائيلي للحدود، الذي تبلغ مساحته حوالي 860 كيلومتراً مربعاً في مياه المتوسط بين البلدين. وفي هذه المساحة تقع أجزاء من البلوكين النفطيين رقم 8 و9 الواعدين نفطياً. وقد سارع لبنان على الرغم من التأخير الكبير في إقرار المراسيم النفطية بسبب الخلافات السياسية، إلى تلزيم البلوك رقم 9 أولاً بهدف حفظ حقه أمام إسرائيل. وبحسب وساطة أميركية سابقة قادها الدبلوماسي الأميركي، فريدريك هوف، لتقسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، فإن للبنان الحق في أكثر من 500 كيلومتر مربع من أصل 860 كيلومتراً. وترى المصادر الرسمية اللبنانية أن "إسرائيل حرّكت ملف الجدار البري في محاولة لتجاوز واقع ورقة هوف، وهو ما لن يقبله لبنان"، وهو ما تم طرحه ونقاشه خلال جلسة المجلس الأعلى للدفاع في لبنان الذي اجتمع يوم الأربعاء الماضي.
بناءً على الرؤية اللبنانية للأزمة والتطمينات الأميركية بشأن سهولة حسم ملف الجدار البري، فإن الخلاف البحري يُشكّل أساس الصراع القائم حالياً بين لبنان وإسرائيل. وقد عبّر لبنان بوضوح عن استعداده للرد على أي اعتداء إسرائيلي على سيادته وحقوقه، ومنح "حزب الله" غطاء رسمياً للرد عبر بيان المجلس الأعلى للدفاع، الذي انطلق أساساً من البيان الوزاري لحكومة سعد الحريري، ولا سيما بند "الحق في مقاومة إسرائيل بكل الوسائل والجهود المتاحة" (حزب الله ضمناً). وهو الموقف الذي رد به لبنان على تهديدات وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، قبل أن يظهر وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، بمظهر "الشرطي الطيب" ويطرح الخيار الدبلوماسي لحل الأزمة مع لبنان.
وبعكس إسرائيل التي تحاول اقتطاع أجزاء من الحقوق الاقتصادية اللبنانية، وبتسهيل أميركي، فإن وزارة الخارجية اللبنانية مارست دوراً بارزاً في تثبيت حقوق لبنان السيادية في البحر عبر تسجيل الخرائط والمسوحات في سجلات الأمم المتحدة، ومراسلة مكتب الأمين العام للتحفظ على كل الادعاءات الإسرائيلية. وبحسب المصادر السياسية، فإن خيار اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي مطروح على طاولة الحكومة اللبنانية، في حال فشلت المساعي الأميركية في كف يد إسرائيل عن ثروات لبنان. وإلى جانب خيار تأميم الأزمة، يؤمّن تحالف الشركات النفطية الإيطالية والروسية والفرنسية ضمانة دولية شبه رسمية من الدول الأم لهذه الشركات، التي ستحرص على سلامة مواطنيها العاملين على منصات النفط اللبنانية، وستحرص على ضمان بيئة مستقرة للاستثمارات التي تضعها شركاتها في هذه المنطقة.
كما أعلن وزير الأشغال اللبناني يوسف فنيانوس، الخميس الماضي، عن مشروع إنشاء مرفأ دولي في بلدة الناقورة الحدودية، مشيراً إلى أن "هدف المرفأ هو أن يكون مشروع مقاومة وهو أولوية في مواجهة الأطماع الإسرائيلية". وقال إنه "يجب أن نبرهن في كل يوم للعدو أننا جاهزون للمواجهة"، وأن "إعمار البلدات المحاذية للحدود الجنوبية هو شكل من أشكال مقاومة الأطماع الإسرائيلية إلى جانب العوائد الاقتصادية له".
التصعيد حاضر
وفي حال تواصل المسعى الإسرائيلي لقضم الحقوق اللبنانية، فإن خيار التصعيد العسكري مطروح دوماً. ويشكّل التقارب السياسي الكبير بين أقطاب الحكم اللبناني وبين "حزب الله"، دعماً مهماً للجبهة اللبنانية التي ستواجه إسرائيل بشكل مُوحّد، ومن دون تحفظات مُسبقة حول دور الحزب في الرد العسكري على الاعتداءات. وبسبب التواجد الأميركي في المنصات النفطية الإسرائيلية، فإن خيار التصعيد يكاد ينحصر في البر فقط. ويمكن لأي انسداد أفق تفاوضي أن يتفجر على الحدود من خلال تصادم بين قوات الجيش اللبناني وقوات الجيش الإسرائيلي المستنفرة بشكل متقابل، على غرار ما حصل في بلدة العديسة الحدودية عام 2010، عندما تحوّل استنفار متبادل بسبب خرق إسرائيلي، إلى معركة قصيرة أسفرت عن مقتل 3 جنود لبنانيين وقائد كتيبة دبابات إسرائيلي برتبة مقدم وإصابة جنديين معه. وفي حال تكرار سيناريو العديسة، فإن حرارة الحدود ستُعيد الطرفين اللبناني والإسرائيلي إلى طاولة التفاوض الأميركي ولكن بشروط تفاوض لبنانية أفضل.
تحضر أيضاً في الملف العسكري خيارات تصعيد إسرائيلي واسع، بذريعة "بناء حزب الله مصنعاً للصواريخ الباليستية في محافظة البقاع". وهو ما قد يُمهّد لحرب إسرائيلية واسعة تطاول كل لبنان. عند هذه النقطة، ستصبح الحاجة مُلحّة لتفاهم دولي واسع يوقف حرباً شاملة قد تندلع بين لبنان (الجيش وحزب الله) مع إسرائيل. وهو ما قد يُمهّد لـ"تفاهم نيسان" جديد (الموقّع عام 1996 لوقف إطلاق النار في جنوب لبنان)، يمنح الحزب شرعية إضافية في مواجهة إسرائيل، أو لقرار دولي جديد يخلف القرار 1701 الذي أنهى عدوان عام 2006 على لبنان. ومن شأن القرار الجديد أن يؤسس لمعادلة جديدة يحفظ فيها لبنان حقوقه البرية والبحرية. وعلى أي اتفاق على شكل سلة أن يشمل تقسيماً جديداً للحدود البرية والبحرية يمنع أي التباس أو ادعاء إسرائيلي، ويبحث ولاية قوات "يونيفيل" والدور المطلوب منها في البحر مع انطلاق أعمال استخراج النفط داخل المياه الإقليمية اللبنانية خلال السنوات القليلة المقبلة.
ويجب أن يُقدّم التدخل الدولي حلولاً عادلة لهواجس لبنان وتطلعاته في حماية حقوقه، مقابل الحلول الواقعية التي يحاول الوسطاء الأميركيون طرحها من وجهة نظر أقرب إلى إسرائيل منها إلى لبنان. وبعد أن مهّد مساعد وزير الخارجية الأميركي لوجهة نظر بلاده للحل في ملف النفط، واستطلع آراء القوى السياسية اللبنانية، فمن شأن زيارة تيلرسون المقبلة أن تكون حاسمة في تحديد مسار الأمور على حدود فلسطين الشمالية.