الوثائقي والتخييلي: اختلافات وتناقضات

10 ابريل 2020
المعنوني: "أليام أليام" مزيج الوثائقي بالتخييلي (فريدريك أم. براون/Getty)
+ الخط -
تُصنِّف المهرجاناتُ السينمائية أفلامَها إلى نوعين رئيسيين: روائي ووثائقي. تُنظَّم المسابقات، وتُكتَب المقالات وفق هذا التقسيم. فما سمات كلّ نوع؟ هذه مقارنة بين الفيلمين الوثائقي والتخييلي، على صعيد علاقة الواقع والتخييل أولاً، ومرور الزمن ثانياً، والكتابة ثم التحضير المتحكم فيها أو التلقائي ثالثاً، والمونتاج السردي وغير السردي رابعاً.

الكتابة بين الواقع والتخييل
في الكتابة، يتطلّب الفيلم الروائي خيالاً، والوثائقي معرفة وخيالاً. في الروائي، يُمكن تلفيق حكاية وتصويرها، حتّى عندما تكون بلا معنى وغير منطقية. يُبرَّر هذا بحرية المبدع. في كتابة الوثائقي، لا بُدّ من معرفة عميقة بالموضوع. تملّك الموضوع لا تخيّله. على الكاتب الوثائقي ملاحظة الواقع وتسجيل ظواهره وربط بعضها ببعضها الآخر، لتوليد المعنى. يقول جورج لوكاش إنّ "الحقيقة عيانية، مهما كانت الأيديولوجيا". لذا، يحترم التوثيق منطق الأشياء والوقائع التجريبية المَعيشة، ويخضع للحدس الفطري، الذي يرشد المتفرّج. في فيلم وثائقي، لن يهزم ماوغلي النمر.

الفيلم التخييلي تصوير محاكاة للواقع، في مكان وزمان يختارهما المخرج. الفيلم الوثائقي تصوير واقع ووقائع أثناء حصولها. في الأول، تُبنى وضعيات دالّة، فيها وقائع متتابعة اختيارياً. في الثاني، يجب العثور على تلك الوضعيات في الواقع لتصويرها. ربما تُبنى الوضعيات الأولى في شارع أو استديو، لكن الثانية ممنوع فبركتها وتصويرها في استديو.
يهدف التخييلي إلى تقديم خيال يُحاكي الواقع، بتكثيفه وترميزه، والوثائقي إلى تقديم صورة عن الواقع، والتقاط الراهنية، والإمساك بطزاجة الحياة وجمالية اللحظة، وعرض وجهة نظر موثّقة توسّع حقل الوعي.

صناعة مرور وانتظار الزمن
ما الفرق بين الفيلمين الوثائقي والتخييلي على صعيد الزمن؟
في التخييلي، يُقرّر المخرج مكان الحدث وزمنه، ويختار ديكور الأحداث، وتُحضَّر صناعة المشهد تبعاً للمكتوب، لتعيشه الشخصيات المتخيّلة. في الوثائقي، ينبغي الذهاب إلى المشهد، وانتظار لحظة حدوثه لتصويره وقنصه، والتقاط الحدث في ديكوره الواقعي، ورصد اللحظة وردّ الفعل العفوي للأشخاص في المكان عينه.

في التخييلي، يستخدم السيناريست والمخرج ومدير التصوير ومُصمّمة الماكياج وأعضاء الفريق الفني طاقاتهم كلّها لعرض كيفية مرور الزمن، وكشف أثره مرحلياً على الشخصيات والمكان. يخترعون الليل، حتّى نهاراً. يستخدمون القطع (Ellipse)، أو يتمّ تعتيم الشاشة لإخبار المتفرّجين بمرور الزمن. لكن، يجب أن يكون الفرق والتحوّل واضحين، حين يُقارن المتفرّج بين الحدث وأمزجة الشخصيات قبل القطع وبعده. هكذا ينقذ التغييرُ المتفرّجَ من أنْ يسبح في اللقطة نفسها مرّتين.

في الوثائقي، يجب انتظار حصول ذلك، مع امتلاك صبر الرصد طويلاً، ودقّة الملاحظة لمعاينة أثر مرور الزمن على ملامح الأشخاص. لذلك، فإنّ أفضل الأفلام الوثائقية هي التي تصوّر خلال أعوام.

بطلان: شخص وشخصية
بطل الفيلم التخييلي شخصية (ممثل)، وبطل الوثائقي شخص يعيش حياة حقيقية. قطع جزء من إصبعه، يعني جرحاً حقيقياً لا ماكياجا. عندما يموت البطل (الشخص) في وثاثقي عن الحرب مثلاً، يُدفن ويحزن المتفرّج. عندما يموت الممثل في فيلم تخييلي، يحضر لاحقاً في المهرجانات، ويُحّيي الجمهور. الوثائقي ليس تصوير محلّلين يتحدّثون في قاعة مُكيّفة، بل تصوير أشخاص يعيشون حياتهم الحقيقية بحيويتها أو بؤسها.

في التحضير للفيلم التخييلي، يقرأ الممثل السيناريو، ويتدرّب ويُعيد ويُعدّل، ليجيد تقمّص الشخصية. في التحضير للفيلم الوثائقي، يتحدّث المخرج إلى الشخص الذي سيصوّره. يبدأ ذلك ببطء وتردّد، ثم يتعمّق الحوار وتنضج الفكرة. لكن، بمجرّد إظهار الكاميرا، تتعقّد الأمور.

سببُ ذلك؟ يحتاط الشخص ويحذر ويتردّد، وربما يرفض التصوير، لأنّ الكاميرا "سكّينٌ ذو حدّين". لذا، يجب الاستعداد لهذا، لأنّ عمق الفيلم الوثائقي ينبع من مدى حصول المخرج على ثقة بطله/ بطلته، للسماح له بتصوير حميميته/ ها بشفافية. من دون هذه الثقة، تنغلق الشخصية على نفسها، ولا تفتح روحها للإضاءة أمام الكاميرا. النتيجة؟ تصوير قشرة الشخصية، لا لبّها.

التصوير
أثناء تصوير الوثائقي، لا تتوفّر فرصة إعادة اللقطات، لذا يجري التصوير بأكثر من كاميرا. هذا أفضل من التصوير بكاميرا واحدة، وإعادة تمثيل اللقطات. خوفاً من قلّة المادة، يجري التصوير بكثافة في الأفلام الوثائقية. بسبب الارتجال، يحصل مُصوّر الوثائقي على لقطاتٍ أكثر، تُصعِّب المونتاج. كثرة المادة لا تعني أنّ التصوير ناجح، لأنّه يُصعِّب مونتاج الارتجال، ولأنه لا يمكن تمرير 70 رسالة. يكفي التركيز على رسالة واحدة.

المونتاج
مونتاج الوثائقي أصعب من مونتاج الفيلم التخييلي. لماذا؟ في التخييلي، يوجد سرد يفرض تتابع اللقطات ويُنظّمها. يبني كاتب السيناريو التسلسل الذي يملي تتابع اللقطات. مثلاً: كسر باب سابق على فعل السرقة. هذا التتابع المنطقي يُسهّل المونتاج. في الوثائقي، يجب تحويل لقطات ومقاطع تشبه أعضاء متناثرة إلى هيكل عظمي، قادر على الوقوف والمشي على الشاشة، لتتابعها عين المتفرّج.

خاتمة
بعد هذا كلّه، تبقى كتابة مقالة نقدية عن فيلم وثائقي واقعي أصعب من الكتابة عن فيلم تخييلي. في النوع الثاني ما يكفي من المفاهيم السردية المستعارة من النقد الروائي لوصف ما يُسرد باعتباره متخيلاً. في النوع الأول، يجب أن تجد الوقائع توصيفها وتفسيرها في سياق الفيلم الواقعي. كتابة نص تحليلي أشبه بإنجاب طفل. لا يمكن القيام بذلك فجأة. لا يمكن ترقيع الطفل بنقل أعضاء له. تحتاج الكتابة إلى زمنٍ، ليكون تكوين الطفل، أي المقال، عضوياً.
المساهمون