الواسطة: عندما يصبح المستحيل ممكناً

04 فبراير 2019
الواسطة تتحكم في مجالات التوظيف بالدول العربية (فرانس برس)
+ الخط -


تعتبر الواسطة، أو ما يعرف بالمحسوبية أو استخدام النفوذ لتحقيق المآرب والمصالح، للأسف أمراً عادياً في مجتمعاتنا العربية، فاستطاعت أن تؤثِّر على ضمائر المسؤولين وتحوِّل "لا" إلى "نعم".

ومن المريب أن تجد الناس يتساهلون بشأن الواسطة، ومن الغريب أيضاً أن تجدهم قد قنَّنوها لأنفسهم، فقد امتزجت الواسطة مع كل أشكال الفساد والتهميش والظلم الاجتماعي الأخرى، وشكَّلت دافعاً قويّاً لقيام الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اجتاحت المنطقة العربية منذ عام 2011، ومع ذلك نجد الحكومات العربية الآن تغضّ بصرها عن هذه الآفة التي تقتل الشباب العربي ببطء وتلاحق أحلامهم لتدفنها في رمال اليأس.

وحسب أرقام غير رسمية فإن الفساد كلف الدول العربية تريليون دولار كان يمكن أن ترفع دخل المواطن بنحو 200 دولار سنوياً وتحقق اكتفاء ذاتي من الغذاء والماء ومكافحة الفقر.

لقد أصبحت الواسطة أو "الفيتامين واو" كما يسميها الساخرون أسلوب حياة قام بغزو ثقافة جميع الدول العربية، وفهم هذه الظاهرة غير الجديدة هو ببساطة المفتاح لفهم العديد من القرارات في العالم العربي. وطبعاً الآن وفي أيامنا هذه أصبحت الواسطة مقترنة بالحصول على المقابل المادي، لذلك ينظر من يملك المال إلى الواسطة على أنّها أداة مهمّة لإضفاء الطابع الإنساني على البيروقراطية.

وطبعاً نذكِّر أيضاً بأنّ هذا الفيتامين يعطي آثاره الإيجابية فقط على الأشخاص الذين يملكون المال، بينما يجعل الحياة أشدّ بؤساً على الفقراء وكذا المسؤولين الذين يحاولون طاعة القانون ولكنّهم مثقلون بالالتزامات المادية العائلية، وبالتالي تؤدِّي الواسطة إلى إعلاء من يملكون المال واستبعاد من لا يملكونه.

وغالباً ما ينظر الكثير للواسطة على أنّها زيت تشحيم مثالي وسحري يفسح المجال لفرص العمل والترقيات ومقاعد في الجامعات ويطلق العنان للعديد من الأعمال التجارية والصفقات الحكومية، ويمكن لمن لهم فرصة الولوج للواسطة قفز الطابور وتحقيق مبتغاهم حتى وإن كانوا غير جاهزين بعد.

وقدرة الواسطة العجيبة على حلّ أيّ مشكلة مهما بلغت صعوبتها ودرجة تعقيدها هي التي جعلت منها جزءاً لا يتجزَّأ من ثقافة المجتمع العربي وطريقة فعّالة لإدارة الأعمال.

حسب دراسات البنك الدولي فإن خسائر الفساد تشكل ما يعادل 2% من الناتج القومي العالمي، وتعادل نحو 10 مرات قيمة المساعدات التي تقدم للدول النامية، وقد بذلت الدول العربية بعض الجهود لمحاربة الفساد والتي أفرزت عن نتائج متفاوتة.

فعندما يستمع المرء لخطابات المسؤولين حول مكافحتهم الفساد يتخيَّلهم أسوداً تنقضّ على الفاسدين، ولكن عندما يلمس عدم جرأتهم على الاقتراب من الفساد في أعلى المستويات يراهم أسوداً بلا أنياب ولا مخالب.

للفساد عدّة منابع أهمها الواسطة التي تعتبر مصدراً مهمّاً للمحسوبية، فهي تعيق التنمية الاقتصادية وتؤثِّر على الأعمال من خلال توفير ميزة غير عادلة واتّخاذ القرارات المبنية على الاتصالات والعلاقات الشخصية بدلاً من الجدارة والإنتاجية.

ولا يخفى على المجتمع العربي ممارسات الفساد والواسطة التي تتمّ في العلن والخفاء أيضاً، حيث تُظهر نتائج استطلاعات الرأي للباروميتر العربي (الدورة الرابعة 2016-2017) بأنّ 81% من المستجوبين في لبنان يرون بأنّه لا يمكن الحصول على وظيفة أو عمل هذه الأيام بدون واسطة، وبلغت النسبة 76% في تونس، و72% في الأردن، و71% في فلسطين، و67% في مصر، و58% في الجزائر، و45% في المغرب.

كما تشير نفس الاستطلاعات إلى أنّ 78% من المستجوبين في لبنان يفيدون بوجود الفساد بشكل كبير في مؤسسات وأجهزة الدولة، وقدِّرت تلك النسبة بـ 68% في تونس، و60% في الجزائر، و51% في مصر، و50% في فلسطين، و41% في الأردن و34% في المغرب.

وما يحزّ في النفس أنّ أغلب المواطنين على يقين بأنّ حكومتهم مُتنصِّلة من مسؤولية القضاء على الفساد، حيث أكَّد 56% من المستجوبين في لبنان أنّ حكومتهم لا تعمل على القضاء على الفساد، وبلغت النسبة 34% في تونس، و32% في الجزائر، و28% في فلسطين، و21% في مصر، و18% في الأردن، و14% في المغرب، وهي نسب معتبرة لا يستهان بها.

يحسب رجال الأعمال الأجانب للواسطة في العالم العربي ألف حساب لما لها من تأثيرات سلبية على أعمالهم، حيث يعتبرونها اليد الخفية لإنجاز الأعمال وتخفيف المخاطر المصاحبة لأيّ مشروع استثماري، فالواسطة تحلّ مشكلة عدم توفُّر المعلومات وكونها غير موثوقة أو متحيزة.

فمثلا في الوقت الذي يمكن فيه الوصول إلى سجلات الشركات والممتلكات في بلدان معينة كلبنان والبحرين بشكل عام يصعب ذلك في بلدان أخرى كالجزائر، بالإضافة إلى ذلك نادراً جداً ما تتوفَّر مكاتب الائتمان في الدول العربية.

ومع وضع العديد من القيود الأخرى في الاعتبار كتوفُّر معلومات قليلة باللغة العربية فقط، يصبح إنجاز الأعمال مكلفاً جداً في غياب الواسطة هذا إن لم يقرِّر المستثمر الأجنبي العودة إلى الديار بسبب التكاليف الباهظة التي قد يتكبَّدها جراء عدم تماثل المعلومات، خصوصا ذلك المستثمر الذي يصعب عليه الولوج لعالم الواسطة الذي يوفّر المعلومات التي لم تُنشر بعد ويساعد على تحليل العلاقات السياسية والتجارية ويوفّر نظرة ثاقبة على التطورات في القطاعات الرئيسية والمهمة.

خلاصة القول إنّ الواسطة تعتبر فزَّاعة تؤرِّق الشباب العربي العاطل عن العمل وكذا المستثمر الأجنبي الذي يجهل قوانين اللعبة في البلد العربي المضيف له، فالشباب الذي يطالب اليوم بالحصول على وظائف دون الحاجة للتوسُّل إلى الواسطة لن يستطيع تحمُّل الذلّ لوقت أكبر وسينفجر في أيّ لحظة، وتندلع نتيجة لذلك كوارث لا تُحمد عقباها.

الأمر نفسه بالنسبة للمستثمر الأجنبي الذي طال استنفاره للمناخ الاستثماري العربي بسبب الواسطة والفساد المستشري في أغلب مؤسسات الدول العربية أين تتأرجح السلطة بين حبال الفاسدين والأغنياء في ظل هيمنة القطاع الحكومي وتعثُّر القطاع الخاص وتقهقر مناخ الأعمال.

ففي الوقت الذي تسعى فيه العديد الدول النامية إلى جذب الاستثمارات الأجنبية تتفنَّن الدول العربية في تنفيرها، لذلك يجب على من يسيِّرون دَفَّة الحكم الاعتراف بمدى خطورة الواسطة ومعالجتها بدلاً من قبولها كخطر لا مفرّ منه والوقوف مكتوفي الأيدي وهم يرون شبابهم يصارع البطالة أمام أعينهم.

 

المساهمون