الهلال يعانق الصليب على حبل المشنقة

11 ديسمبر 2014
عندما تقرر الانتحار تكون وقتها قد مت بالفعل (أ.ف.ب)
+ الخط -

(1)
 
يضغط على زر الانتظار، يوقف سيارته فى جانب من الطريق السريع، يترجل من سيارته، يسير بخطوات متمهلة وثابتة ناحية لافتة إعلانية ضخمة وفى يده حبل، وجهته معروفة ومحددة سلفاً، الهواء الصحراوي البارد يصطدم بوجهه، لكن جسده ساخن ينزّ بحرارة حارقة، قطرات العرق تنزل من على جبهته غزيرة وساخنة، يصعد السلم الحديدي، خطوة فأخرى، الهواء يصبح أبرد وجسده يزداد سخونة، أنفاسه سريعة يلاحق أحدها الآخر، تدق قلبه كأنها مطرقة، يصل إلى وجهته الأخيرة، السٌلّمة الأخيرة، عقله أخذا قراراً بالتوقف عن التفكير، مضى ذلك الوقت، بإحكام يلفّ طرف الحبل الذى اختبر متانته من قبل حول عنقه، والطرف الآخر يربطه بإحكام فى الحديد الصدئ، يلقي نظرة أخيرة على الصحراء الممتدة، على راكبي السيارات، كأنه يحدثهم: هأنذا، انظروا إليَّ، تمعنوا فى وجهي، أنا الكافر بالحياة وبالوطن، انظروا فتلك آخر مرة ستتلاقى فيها عيوننا.. يقفز أخيراّ، تذهب الروح، ويبقى الجسد جامداً ثابتاً، يتدلى فى الهواء الطلق، بلا هموم، وبلا آلام تضغط على قلبه وروحه، يتدلى كأيقونة للقهر والوجع.


(2)

انتحر "فرج رزق جاد الله" ذو الثمانية والأربعين عاماً شانقاً نفسه على لوحة اعلانية على طريق مصر الإسماعيلية الصحراوي، اختار أن يكون المشهد الأخير من حياته سينمائياً خالصاً، كأنما يقول لنا "سأرحل فى هدوء، لكني سأترككم ترون جسدى متدلياً فى الهواء، يوجع قلوبكم وينهك أرواحكم". رحل فرج تاركأ زوجة وطفلين، ودخل شهري قيمته ألف ومائتا جنيه، وما أدراكم ما الألف ومائتا جنيه لرجل متزوج ولديه أطفال، ربما حتى لا تكفي طعاماً وعلبة سجائر يومية لشاب أعزب.

"تعبت.. أٌستهلكت.. ومفيش فايدة".. كانت تلك رسالة "زينب المهدي" الأخيرة قبل أن تنهى حياتها شنقاً فى غرفتها. زينب، الفتاة العشرينية التي ما زالت فى مقتبل عمرها أُنهكت روحها وبدا لها المستقبل أسود معتماً، وبعد زينب أنهى أشرف صابر صليب حياته بنفس الطريقة، وقبلهما انتحر الآف شنقاً أو غرقاً أو رمياً تحت عجلات المترو أو القطار.. تعددت الأسماء والموت واحد، وكذلك القهر واحد.


(3)

عندما تقرر الانتحار تكون وقتها قد مت بالفعل.. ما ينقذونه بعد ذلك لا يكون هو أنت، ولكن جثتك (بهاء طاهر/ قالت ضحى). حين يقرر المرء أن ينهي حياته فثمة حبة قد انفرطت من عقد الكون، ثّمة روح صعدت وهي تلعن الوطن والمجتمع، وتلعن الأمل الذي عاشت لأجله عمراً، وبدا في نهاية المطاف أنه ليس سوى وهم. لا يعرف القهر هنا فرقاً بين مسلم ومسيحي، كلاهما انعجنا في أرض واحدة، داستهما معاً أقدام الفساد والظلم، استنزفهما الوطن ثم لفظهما معاً، وترك جثثهما معلقة فى الهواء، باردة مستكينة.


*مصر

المساهمون