31 أكتوبر 2024
الهزيمة المؤسِّسة للهزائم
على الرغم من مرور نصف قرن على هزيمة يونيو/ حزيران 1967، عشنا خلاله هزائم متواصلة، لا تقل عمقاً وإهانة، يبقى لتلك الهزيمة أثرها الأكثر إيلاماً، ليس لأنها انتهت بخسارة أرضٍ عربيةٍ تعادل ضعف مساحة الدولة المنتصرة حينها، فهي من هذه الزاوية ليست أكثر إيلاماً من هزيمة 1948، بل لأنها هزمت الأنظمة العربية "التقدمية" التي كانت تقوم على مشروع الاستعادة الجذرية للحقوق العربية، وقد يتضمن ذلك إزالة إسرائيل.
كان يمكن للشعوب العربية أن تنسب هزيمة 1948 لفسادٍ في الأنظمة الملكية البالية والخائنة (مصر، العراق، الأردن)، ولحداثة عهد (وتخلف) جيوش "الدول الوطنية" الخارجة حديثاً من مرحلة الاستعمار المباشر (سورية، لبنان). كان لا يزال في خلفية التصور الشعبي العربي احتياطي نفسي مُستمد من أن هزيمة 48 هي هزيمة أنظمة متخلفة، وأن في اليد رصيدا لم يُستثمر بعد، وأن العرب لم يقولوا كلمتهم الأخيرة، ذلك أن في الجيوش العربية، وفي المجتمع العربي، قوى حية كانت مغيبة، وهي تغذّي الأمل بنهضة، ورد اعتبار بعد النكبة. وبالفعل، لم تتأخر هذه القوى المأمولة في الانقلاب على "أنظمة النكبة" في أهم بلدين مجاورين لإسرائيل (في سورية 1949، وفي مصر 1952). قاد الانقلابيْن ضباط شاركوا في حرب 1948 الخاسرة، وبدا كأن الأنظمة العربية المهزومة تلك كانت تنتظر سقوطاً يحرّرها من ثقل هزيمتها الباهظ. كانت تلك أنظمة فقدت شرعيتها الشعبية، بفعل فشلها الوطني، وتوفرت "القوى الحية" القادرة على إزاحتها باسم رد الاعتبار الوطني. لماذا لم يتكرّر هذا المسار الطبيعي والمألوف، في هزيمة 67؟
في سورية، هذا البلد القلق الذي يتطلع دائماً إلى تجاوز ذاته، صارت الدولة، بعد هزيمة
1948، محلاً لانقلاباتٍ عسكريةٍ متواليةٍ، بعد أن صار الجيش محلاً للتحزّبات والصراعات السياسية والتآمر والتخطيط للانقلابات. وكان أفضل ما في هذه الانقلابات أنها فشلت جميعاً في التأسيس لنفسها، وراح الانقلاب يسقط الانقلاب، ما أفضى إلى "السنوات الديمقراطية" (1954-1958) التي قالت إن سورية كانت أكثر قلقاً من أن تستقرّ على انقلاب أو على ديمقراطية. لم تفرز مرحلة ما بعد الاستعمار في سورية زعيماً سورياً على الطريقة المصرية، ولذلك بقيت الأحزاب السياسية وصراعاتها من سمات تاريخ سورية المعاصر. أما في مصر، فقد نجح الضباط الأحرار في الاستمرار في الحكم، ساهم في ذلك استقرار الكيان المصري (اكتفاؤه بذاته) واستقرار النفسية السياسية المصرية جراء هذا، فضلاً عن توفر صفات شخصية مميزة لزعيم الانقلاب هناك. تمكّن الانقلابيون المصريون، مع الوقت، من تطوير نظرتهم وسياساتهم، ومن تحقيق إنجاز كبير في تأميم قناة السويس والصمود في وجه العدوان الثلاثي 1956، كان حاسماً في ذلك الموقفان الأميركي والسوفييتي حينها. وبذلك لم يرسّخ الضباط الأحرار، وجمال عبد الناصر تحديداً، سلطتهم في مصر فقط، بل باتوا تجسيداً للأمل العربي في النهوض، وفاضت زعامة عبد الناصر عن حدود مصر، ليغدو زعيماً و"حبيباً" للعرب.
ترتمي سورية الديمقراطية في أحضان الزعيم المصري بعد عامين من مأثرة السويس، ثم تسترد ذاتها منه بعد ثلاثة أعوام، ومن كبر زعامته أنه لم يحاول قسرها على البقاء. ظلت مصر "متحدةً" مع نفسها، بعد أن غادرتها شريكتها الوحدوية التي يحدث فيها كل شيء تحت شعار وحدوي، بما في ذلك الانفصال (انفصال سبتمبر/ أيلول 1961). ثم يحدث في 1963، انقلاب "وحدوي" على الانفصال "الوحدوي"، وتبقى الوحدة دائماً المعبود المنبوذ. ثم في 1966، ينقلب انقلابٌ على الانقلاب، انقلاب ذو ضجيج قومي تحرّري يساري حتى حدود الماركسية، وشديد الاستخفاف بإسرائيل، حتى حدود اللامعقول. ولا يخرج عن السياق القولُ إن تلك الطفولة البعثية النزقة كانت تستند نفسياً إلى وجود مصر عبد الناصر، بعد كل شيء.
يأتي عمق هزيمة 67 من أنها لحقت بأنظمة "تحرّرية"، كانت تعتبر نفسها، ويصدقها
الجمهور، أنها الرد السياسي والوطني على "أنظمة النكبة". على هذا، فإنها أتت على الاحتياطي النفسي العربي، ووضعت العرب أمام حقيقة شديدة الإيلام هي حقيقة العجز تجاه إسرائيل. تلك هي السمة التي جعلتها هزيمةً مؤسسة للهزائم التالية التي كان أقربها أحداث 1970 – 1971 في الأردن، والتي انتهت بسحق منظمات المقاومة الفلسطينية وطردها من الأردن. يصح القول إنه لولا مركّب العجز الذي أرسته هزيمة 67 لما مرّر العالم العربي ذبح الفلسطينيين في الأردن بهذه البساطة.
الحق أن حزيران 1967 أعاد هيكلة العالم العربي سياسياً ونفسياً حول فكرة قبول إسرائيل. كان هذا ما ترسّم في قمة الخرطوم بعيد الهزيمة، القمة التي يعتبرها جورج قرم، على الرغم من لاءاتها الثلاث، هزيمةً سياسية لا تقل عن هزيمة حزيران نفسها. ثم تكفل "أيلول الأسود" في الأردن أن يخمد التطلع البعيد للمقاومة الفلسطينية، الأمل الشعبي المتبقي. حتى ياسر عرفات "الواقعي" عبر عن يقينه قبل أيلول الأسود، في أن "الفسلطينيين سينتصرون في الأردن، لأن غالبية ضباط الجيش الأردني من الفلسطينيين، ولن يوجهوا سلاحهم إلى صدور أخوتهم"، ولكن لم ينتقل في الواقع إلى صفوف الفلسطينيين حينها سوى عدد ضئيل من ضباط الجيش الأردني وجنوده، ونطمئن إلى القول إن هزيمة 67 كانت في أساس هذا التخلي العربي عن الفلسطينيين، التخلي الذي لم يكن يتصوره عرفات، والذي جعله يقول، في وقت مبكر للغاية (حزيران/يونيو 1971)، طالباً عدم نشر قوله حينها: "أقول بصراحة إننا عاجزون عن إزالة إسرائيل"، كما ينقل عنه الدبلوماسي الروسي، يفغيني بريماكوف، في كتابه "الشرق الأوسط، المعلوم والمخفي".
لم يكن الاستقرار الأسطوري الذي شمل الوطن العربي بعد تلك الهزيمة سوى استقرار لواقع القناعة السياسية والنفسية التي أرستها تلك الهزيمة، بالعجز أمام إسرائيل. الواقع الذي شكّل نفسه عبر مجموعةٍ من النقلات التكيفية، ليس فقط مع الوجود الإسرائيلي، بل ومع القبول الضمني بالسيطرة الإسرائيلية.
كما شكلت هزيمة 67 إطار هزيمة الفلسطينيين في الأردن وأساسها، شكلت كذلك أساس التكيف المصري الذي بدأ بالقبول بقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 242 ومشروع روجرز، وانتهى بزيارة أنور السادات إلى القدس، وأساس التحوّل اليميني السوري في نوفمبر/ تشرين الثاتي 1970 واستمراره في التوريث، وصولاً إلى الخراب السوري الحالي.
كان يمكن للشعوب العربية أن تنسب هزيمة 1948 لفسادٍ في الأنظمة الملكية البالية والخائنة (مصر، العراق، الأردن)، ولحداثة عهد (وتخلف) جيوش "الدول الوطنية" الخارجة حديثاً من مرحلة الاستعمار المباشر (سورية، لبنان). كان لا يزال في خلفية التصور الشعبي العربي احتياطي نفسي مُستمد من أن هزيمة 48 هي هزيمة أنظمة متخلفة، وأن في اليد رصيدا لم يُستثمر بعد، وأن العرب لم يقولوا كلمتهم الأخيرة، ذلك أن في الجيوش العربية، وفي المجتمع العربي، قوى حية كانت مغيبة، وهي تغذّي الأمل بنهضة، ورد اعتبار بعد النكبة. وبالفعل، لم تتأخر هذه القوى المأمولة في الانقلاب على "أنظمة النكبة" في أهم بلدين مجاورين لإسرائيل (في سورية 1949، وفي مصر 1952). قاد الانقلابيْن ضباط شاركوا في حرب 1948 الخاسرة، وبدا كأن الأنظمة العربية المهزومة تلك كانت تنتظر سقوطاً يحرّرها من ثقل هزيمتها الباهظ. كانت تلك أنظمة فقدت شرعيتها الشعبية، بفعل فشلها الوطني، وتوفرت "القوى الحية" القادرة على إزاحتها باسم رد الاعتبار الوطني. لماذا لم يتكرّر هذا المسار الطبيعي والمألوف، في هزيمة 67؟
في سورية، هذا البلد القلق الذي يتطلع دائماً إلى تجاوز ذاته، صارت الدولة، بعد هزيمة
ترتمي سورية الديمقراطية في أحضان الزعيم المصري بعد عامين من مأثرة السويس، ثم تسترد ذاتها منه بعد ثلاثة أعوام، ومن كبر زعامته أنه لم يحاول قسرها على البقاء. ظلت مصر "متحدةً" مع نفسها، بعد أن غادرتها شريكتها الوحدوية التي يحدث فيها كل شيء تحت شعار وحدوي، بما في ذلك الانفصال (انفصال سبتمبر/ أيلول 1961). ثم يحدث في 1963، انقلاب "وحدوي" على الانفصال "الوحدوي"، وتبقى الوحدة دائماً المعبود المنبوذ. ثم في 1966، ينقلب انقلابٌ على الانقلاب، انقلاب ذو ضجيج قومي تحرّري يساري حتى حدود الماركسية، وشديد الاستخفاف بإسرائيل، حتى حدود اللامعقول. ولا يخرج عن السياق القولُ إن تلك الطفولة البعثية النزقة كانت تستند نفسياً إلى وجود مصر عبد الناصر، بعد كل شيء.
يأتي عمق هزيمة 67 من أنها لحقت بأنظمة "تحرّرية"، كانت تعتبر نفسها، ويصدقها
الحق أن حزيران 1967 أعاد هيكلة العالم العربي سياسياً ونفسياً حول فكرة قبول إسرائيل. كان هذا ما ترسّم في قمة الخرطوم بعيد الهزيمة، القمة التي يعتبرها جورج قرم، على الرغم من لاءاتها الثلاث، هزيمةً سياسية لا تقل عن هزيمة حزيران نفسها. ثم تكفل "أيلول الأسود" في الأردن أن يخمد التطلع البعيد للمقاومة الفلسطينية، الأمل الشعبي المتبقي. حتى ياسر عرفات "الواقعي" عبر عن يقينه قبل أيلول الأسود، في أن "الفسلطينيين سينتصرون في الأردن، لأن غالبية ضباط الجيش الأردني من الفلسطينيين، ولن يوجهوا سلاحهم إلى صدور أخوتهم"، ولكن لم ينتقل في الواقع إلى صفوف الفلسطينيين حينها سوى عدد ضئيل من ضباط الجيش الأردني وجنوده، ونطمئن إلى القول إن هزيمة 67 كانت في أساس هذا التخلي العربي عن الفلسطينيين، التخلي الذي لم يكن يتصوره عرفات، والذي جعله يقول، في وقت مبكر للغاية (حزيران/يونيو 1971)، طالباً عدم نشر قوله حينها: "أقول بصراحة إننا عاجزون عن إزالة إسرائيل"، كما ينقل عنه الدبلوماسي الروسي، يفغيني بريماكوف، في كتابه "الشرق الأوسط، المعلوم والمخفي".
لم يكن الاستقرار الأسطوري الذي شمل الوطن العربي بعد تلك الهزيمة سوى استقرار لواقع القناعة السياسية والنفسية التي أرستها تلك الهزيمة، بالعجز أمام إسرائيل. الواقع الذي شكّل نفسه عبر مجموعةٍ من النقلات التكيفية، ليس فقط مع الوجود الإسرائيلي، بل ومع القبول الضمني بالسيطرة الإسرائيلية.
كما شكلت هزيمة 67 إطار هزيمة الفلسطينيين في الأردن وأساسها، شكلت كذلك أساس التكيف المصري الذي بدأ بالقبول بقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 242 ومشروع روجرز، وانتهى بزيارة أنور السادات إلى القدس، وأساس التحوّل اليميني السوري في نوفمبر/ تشرين الثاتي 1970 واستمراره في التوريث، وصولاً إلى الخراب السوري الحالي.