الهروب من الحرية

01 نوفمبر 2019
نهاد الترك/ سورية
+ الخط -

المشهد هو الآتي: متظاهرون يقفون وسط الشارع، أو يسيرون حاملين الأعلام، ويطالبون بالحرية أو الكرامة أو رغيف الخبز، بينما يهاجمهم من الطرف الآخر متظاهرون آخرون يشبهونهم في كل شيء، في الملابس والوجوه والهيئات واللغة ليقولوا لهم إن حريتكم التي تطلبونها تحت نعالنا (الواقع أنهم قالوا كلاماً أكثر بذاءة).

ومن المحتمل، بل من المؤكد أن يستخدموا نعالهم، أو عصيّهم، أو قبضاتهم لتحطيم السياق السلمي الذي يطالب بالحرية ورغيف الخبز. سبق لإريك فروم أن تساءل في كتابه "الخوف من الحرية" عن هؤلاء الذين يكسرون إرادة الحرية لدى غيرهم: "لماذا تكون الحرية هدفاً منشوداً لدى العديد من البشر، ولماذا تكون تهديداً لآخرين؟"، وهو لا يسأل عن أي نظام حاكم كما يتضح من كتابه، ذلك أن من طبيعة الأنظمة الفاشية، وهو يكثر من الإشارة إليها، أن تكون الحرية بالنسبة إلى أركانها خطراً يجب تحاشيه ومنعه من الحياة، بل هو يتساءل عن الأنصار، أنصار النظام الفاشي الذين لم يخرجوا ليدافعوا عنه، وحسب، بل رفضوا أن ينالوا الحرية، كما سعوا، وقاتلوا أيضاً لمنع الآخرين من نيل حريتهم.

فهل يرفض المهاجمون الحرية؟ هل يستهويهم أن يكونوا مأمورين وأشباه عبيد؟ هل هي صفات جوهرية لدى هذه الجموع، أم هي عرض مؤقت تدفعهم إليه أيديولوجيات وظروف سياسية واجتماعية؟ يميل فروم إلى القول إن الميكانزم الأول هو التخلّي عن استقلال النفس، أو هو البحث عن روابط ثانوية (سنجدها في الطائفة أو القبيلة أو العائلة أو الحزب الديني) بديلاً من الروابط الأولية (كالوطنية أو القومية) التي ضاعت.

أطرف ما في الميل إلى السلطة، وهم من يسمّون الموالون، أنهم يسمّون خضوعهم حبّاً أو إخلاصاً. وسنلتقي بنماذج عديدة من هؤلاء في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين (وهو ما يشير إلى راهنية التحليل الذي قدّمه إريك فروم في كتابه) خاصة في البلدان التي شهدت ثورات وانتفاضات وهبّات شعبية.

معظم الكتّاب والفنانين يضمرون حبّاً وإعجاباً وتقديراً للشعوب، وإن كنّا نجد من يهجو الحشود ويعتبر أنها كتل صمّاء وعمياء تُقاد بيد أي مزوّر ومدّع ومنافق من بين الزعماء، فإن الراجح هو الغضب لا الاحتقار.

وفي الغالب، فإن المسرح والشعر والرواية العربية لم تسجّل أعمالاً تشير إلى هذا الأمر، ومعظم النصوص التي قاربت موضوع الحرية، تناولت القضية من وجوه عديدة، لم يكن بينها وجه هذا الجزء من الشعب الذي يناهض الحرية. إذ كان المحتل الأجنبي أحياناً هو العدو، وهنا فإن شعار الحرية يعني قضية التحرر الوطني، أو كانت السلطة الاستبدادية هي العدو، وهنا فإن قضية الحريات السياسية والاجتماعية هي التي تشغل النص. وفي الأولى يُتهم المستعمر بقمع الحريات، وفي الثانية تُتهم الأنظمة الاستبدادية بذلك.

وقد يكون من بين المهام الكبيرة التي قد تناط بالرواية السورية في المستقبل، استكشاف طبيعة تلك "الجموع" التي عارضت الثورة، ووقفت ضدها. لماذا وأين وكيف؟

المساهمون