الهجوم على عزمي بشارة... "اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ"

07 اغسطس 2020
+ الخط -

كثيراً ما تكون مفاهيمنا التأسيسية والأخلاقية في الحياة حصيلة قناعات انحفرت في وعينا، وانغرست في صدورنا، صغاراً، ومن ثمَّ، ومن حيث لا ننتبه، تراها تؤطّر بعض أفكارنا وتصوراتنا عن أشياء معينة، وتوجه سلوكنا وتضبطه في سياقات أخرى. من ذلك، على سبيل المثال، أنني ما زلت أذكر درساً، سمعته طفلاً في المسجد، عن رجل صالح سجد فأطال، فوسوس له الشيطان إنك ما تطيل سجودك إلا ليقول الناس إنك تقيٌّ ورع! وتمضي القصة، إن ذلك الرجل الصالح همَّ برفع رأسه، إلا أن الله ألهمه أنه إن أنهى سجوده، فإنه فعلاً يكون يقوم بذلك رياء الناس، وليس خشوعاً وتقوى لله وحده. 

تداعى هذا الخاطر إلى ذهني، أو ربما استدعاه اللاوعي لديَّ، وأنا أتابع الحملة الشرسة على كل من المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، الذي، للأمانة، أعمل فيه باحثاً غير متفرغ من واشنطن، والتلفزيون العربي، والذي، للموضوعية أيضاً، أشارك محللاً سياسياً في بعض برامجه، وصحيفة العربي الجديد، التي أكتب فيها مقالاً أسبوعياً. وتكثف الهجوم على تلك المشاريع في شخص الرجل الذي يقف وراءها ويشرف عليها، عزمي بشارة. وبناءً على ما سبق، أحسب أن سبب تداعي الخاطر الذي استهللت به هذا المقال، أو استدعائه، في حالتي، أصبح واضحاً، فأنا مرتبط بالمشاريع السابقة ومن يقف وراءها، وهم محل الهجوم اليوم، وبالتالي فإن أي كلمة إيجابيةٍ مني قد تغدو متهمة بالتملق والتزلف. إلا أن بعضاً من التأسيس المفاهيمي والأخلاقي المُخْتَزَنِ في وعيي أو لا وعيي يأبى عليَّ إلا أن أقول ما أراه كلمة حق أدين بها لربي أولاً، ولضميري ثانياً، وللحقيقة ثالثاً، متجاوزاً في ذلك رهبة الاتهام في ديني وخلقي واستقلالية رأيي، وهو الأمر الذي أوضحه تالياً.

كثيرون ممن يهاجمون عزمي بشارة اليوم لا توجد بينهم وبينه عداوة جذرية، سواء لناحية الفكر  أو الغاية المتمثلة في التأسيس لديمقراطية عربية واعية

مبدئياً، أنا ممن أساءهم ما قام به زميل يكتب في هذه الصحيفة من استهزاءٍ بأسلوب سخيف، على صفحته على فيسبوك، بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ورئيس الشؤون الدينية التركية، علي أرباش، على خلفية إعادة متحف آيا صوفيا في إسطنبول مسجداً. مشكلتي في سخافة الاستهزاء، لا في حق النقد والاعتراض، حتى وإن اختلفت مع أرضيتهما ومنطلقهما. لم أكن لأعلم بما كتبه الزميل لولا أن أذاع بعض الأشخاص الأمر، ومنهم أصدقاء. الرجل قال ما قال على صفحته الخاصة على "فيسبوك"، وهو حرّ في رأيه، كما أننا أحرار في آرائنا المخالفة له، وأحرار في نقدنا إياه، وبقسوة كذلك. وعلى الرغم من استبشاعي كيفية تصويره المسألة، بطريقة أراها معيبة، ولا تحمل احتراماً لقضية تحمل رمزياتٍ لأناس كثيرين، إلا أنه لم يمسّ، مباشرة، في هذا الموضوع، بثابت أو مقدّس إسلامي. 

أبعد من ذلك، كثيرون ممن يَحْتَفِلُ بهم بعضنا، أو يعيد نشر ما يكتبونه على "فيسبوك" أو تغريداتهم على "تويتر يسيئون" أكثر من ذلك أحياناً، بما في ذلك في برامجهم التلفزيونية، وعبر محطات تلفزة معروفة، ولكن يختار بعضنا الصمت عنهم، بمن فينا بعض من يقفون خلف الحملة الراهنة ضد تلك المؤسسات الإعلامية والبحثية وعزمي بشارة. مرة أخرى، هذا ليس تبريراً لما أراه فعلاً مستبشعاً، وأنا ممن تشرفوا غير مرة بلقاءات مع أردوغان وأرباش، في أميركا وتركيا، ولم ألمس فيهما إلا إخلاصاً، ولم أجد منهما إلا حباً وحرصاً على الإسلام والمسلمين، على عكس ما حاول أن يوحي به صاحب المنشور الذي أثار الزوبعة. وكثيراً ما عبّرت عن رأيي هذا في فضاءاتي الخاصة، بل وفي مقالات، بما في ذلك في "العربي الجديد"، ولم يسعَ أحد يوماً إلى لجم رأيي، ولا أقبل من أحد أن يتدخل فيه أصلاً. بمعنى آخر، لم يكن الأمر يحتاج إلى هذا التضخيم وشنِّ حملة شعواء على بشارة والمشاريع التي يُشرف عليها، ومحاولة تَحْبيكِ خطوط مؤامرةٍ موهومةٍ ضد الإسلام ودولة قطر يُزْعَمُ وقوفه وراءها، اللهم أن يكون الهدف هو ذلك بعينه، أي إجهاض جهده ومشروعه، وليس غضباً من منشورٍ سخيفٍ يفتقد اللَّياقة والاحترام.

قد يكون لبشارة رأي في إيديولوجيا وطرق عمل ما توصف بتيارات "الإسلام السياسي"، لكنه أبداً ليس معادياً لها

ليست هذه السطور طلباً لعداوة أحد، ولا هي سعي إلى توتير العلاقة مع أصدقاء أحرص على صداقتهم. كذلك فإنها ليست تملقاً ولا تزلفاً لأحد، وهي ليست طمعاً في رضى أحد، بل أزعم أن الأسلم، في حسابات الوضاعة السياسية والمصلحية هو الصمت لمن هو مثلي، خصوصاً إن كان صاحب الشأن لا يتوقع شيئاً مني، دع عنك، أنه قد لا يعجبه المقال أصلاً. ولكن، وكما سبقت الإشارة، ثمَّة مفاهيم تأسيسية وأخلاقية عندي تمنعني من أن أسكت عن كلمة حق أراها وأؤمن بها، مهما كان ثمنها المفترض. منطلق هذه السطور قول المولى جَلَّ وعلا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ" (المائدة: 8). من نافلة القول أنه لا توجد عداوة بيني وبين بشارة، والذي هو مفكر عربيٌّ عميق ومُلمّ. وأزعم أن كثيرين ممن يهاجمونه اليوم لا توجد بينهم وبينه عداوة جذرية، سواء لناحية الفكر أو الغاية المتمثلة في التأسيس لديمقراطية عربية واعية ومتحرّرة من أنظمة قمعية متخلفة. هذا لا يعني تبخيس الاختلاف في المشارب الفكرية والسياسية والفلسفية والمنهجية. ولكن، ما أعرفه أن من يشنون الحملة على بشارة يتحالفون مع مخالفين لهم إيديولوجياً وسياسياً، بل وحتى دينياً. ومن ثمَّ يصبح الغمز من قناة الرجل لناحية دينه واتهامه بـ"الصليبية" ومحاولة العبث بكنه الإسلام وروحه، دونما دليل بَيِّنٍ أبلج، تجنياً في الحد الأدنى، وقرينة وجود حسابات أخرى. 

ألمحت إلى ترددي في كتابة هذا المقال. ولكن، وفضلاً عن التأسيس المفاهيمي والأخلاقي المحفور في وعيي، طفلاً، المشار إليه آنفاً، وجدت أن "طلب السلامة" لا يجدي، فالمعركة مفروضة على من هو مثلي. وسواء تكلمت أو لم أتكلم، فأنا مشمول في الهجوم، الذي وصل إلى حدَّ اتهام "إسلاميين"، حُسِبْتُ عليهم، بأن بشارة يستخدمنا "ديكورات تجميلية"، وبأنه "اشترى ذممنا"! بل إن أحدهم شنَّ هجوماً لاذعاً، يفتقد للأخلاق والأدب والمروءة، على الأستاذ الكبير الفاضل، سيف عبد الفتاح، لأنه يعمل في المركز العربي (وهو لا يعمل فيه)، ومشكّكاً في نياته ودوافعه، ولا يتردّد هؤلاء في المزايدة علينا وكأننا نبيع ديننا ومبادئنا بعرض الحياة الدنيا، في حين يزكّون فيه أنفسهم! 

لهؤلاء أقول: ليس مثلنا من يبيع دينه أو مبدأً يؤمن به، مهما كان الثمن ومهما كانت الإغراءات. أنتم لستم أحرص منّا على ديننا وعقيدتنا. وإني لأعجب إن كان بعض نافخي الكير من هؤلاء قد رأوا منا موقفاً، أو قرأوا لنا رأياً فيه تنازلاً عن مبدأ. لن تجدوا، أتعلمون لماذا؟ أولاً، لأننا لا نقبل ذلك على أنفسنا. وثانياً، لأن عملنا قائم على كفاءتنا، ولا نقبل صدقة أحد أو منّته أو استغلاله. وثالثاً، لأن أحداً لم يطلب منَّا ذلك، ولن يطلبوا أبداً. وكما أن في التلفزيون والصحيفة وغيرهما من مشاريع إعلامية في مؤسسة فضاءات ميديا من قد يكون عندهم حساسية من أنماط التَدَيُّنِ والمتدينين، وليس بالضرورة من الدين نفسه، ولا يحجر أحد عليهم، ما دام لم يتجاوزوا على حقوق غيرهم، فإن فيها مُتَدَيِّنينَ يمارسون تَدَيُّنَهُم بحرية، ولا يحجُر أحدٌ عليهم أيضاً. يكفي أي موضوعيٍّ أن يتابع مقالات الرأي في هذه الصحيفة ليرى تنوّع مشارب كتابها. 

ليس مثلنا من يبيع دينه أو مبدأً يؤمن به، مهما كان الثمن ومهما كانت الإغراءات. أنتم لستم أحرص منّا على ديننا وعقيدتنا

لي مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قرابة ستة أعوام، وهي المدة التي أكتب فيها مقال رأي أسبوعي في "العربي الجديد". هذه شهادة حق. لم يحدث يوماً أن طلب مني عزمي بشارة، أو أحد حوله، أن أعبّر عن موقف معين. أيضاً، لم يحدث يوماً، أن مُنع مقال لي من النشر، أو تلوعب في محتواه، لأنه لم يعجب الإدارة، وبعض مقالاتي، بالمناسبة، تحمل نفَساً "إسلامياً" أو تدافع عن الإسلاميين. أبعد من ذلك، لم يراجعني بشارة يوماً، عاتباً أو ناقداً، في رأي كتبته، على الرغم من أني أعلم أن بعض آرائي قد لا تعجبه. ومن باب الموضوعية، راجعني مرة واحدة عاتباً بسبب مشاركة لي في أحد برامج التلفزيون العربي، استخدمت فيها لغة غير أكاديمية وغير مهنية في نقد حركتي حماس وفتح معاً، مع أن مشاركتي كانت كـ"محلل سياسي". يومها قال لي: من حقك أن تعبّر عن رأيك كما تشاء، ولكن ليس من المناسب أن تستخدم صفتك باحثاً في المركز في زجِّنا في معركة لسنا طرفاً فيها. إذن، كانت مشكلته في تحولي إلى طرف في معركة فصائلية وسياسية، على الرغم من أنه كان من المفترض أني أتحدث بصفتي باحثاً في المركز، ولم تكن المشكلة في الرأي نفسه.

ليس عزمي بشارة معادياً للإسلام، ومن ادّعى غير ذلك، فعليه أن يأتي ببرهان ساطع. وهو ليس "صليبياً" كما يقول أحد من شهرتهم البضاعة المزجاة في زمن وسائل التواصل الاجتماعي. وهو ليس "صهيونيا" ولا "جاسوساً" كما يزعم بعض التافهين من سقط المتاع. بل دعوني أجزم بالتالي: لقد جلست إليه مرات كثيرة، ولي معه نقاشات مطولة، ولم أرَ منه إلا احتراماً للإسلام. وشخصياً، أرى فيه نتاج حضارة الإسلام. أيعقل أن يكون العقل المفكر وراء مشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية"، الذي يروم حفظ اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، وتعزيز دورها، عدواً للإسلام؟ قد يكون لبشارة رأي في إيديولوجيا وطرق عمل ما توصف بتيارات "الإسلام السياسي"، ولكنه أبداً ليس معادياً لها. أقول كلاماً أنا مسؤول عنه. وفي ما أعلم، فأغلب المثقفين الإسلاميين، أنفسهم، لا يخلطون بين الإيديولوجيا والدين. أما مسألة أنه "صهيوني"، وهي بالمناسبة تعريض بكونه فلسطينياً من أصل مليون ونصف مليون، هم صامدون على أرضهم التاريخية، فهذه قمة المهزلة. قل ما شئت في آرائه السياسية حول الصراع قبل أن يخرج هارباً بحريته من دولة أبارتايد نافح، ولا يزال، عن حق شعبه فيها، لكن أن تزعم أنه عميل لها، فهذا عيب وسفالة. وأزيدكم من الشعر بيتاً، أنا ناشط من أجل فلسطين في أميركا، ويكفي أن تضع اسمي في "غوغل" بالإنكليزية، لترى حجم التشويه والهجوم الشرس الذي أتعرّض له من اللوبي الصهيوني هنا، ومع ذلك، فإني ما وجدت إلا الدعم والمؤازرة المعنوية من عزمي بشارة.

لا يحاكم عزمي بشارة الناس على أساس الخلفيات الإيديولوجية التي ينتمون إليها

باختصار، أعلم أن هناك تَنَمُّراً إيديولوجياً ضد المُتَدَينين، وأنا قادر على أن أكتب في ذلك كتباً، ولكن هذا ليس موجوداً في المركز العربي والتلفزيون والصحيفة (وغيرهما من مشاريع إعلامية وعلمية)، من دون أن أنفي إمكانية وجود بعض المُتَحَسِّسينَ من المُتَدَينينَ، ولكني أزعم جازماً بأن عزمي بشارة ليس منهم، ولا يسمح بذلك، ولا هو يحاكم الناس على أساس الخلفيات الإيديولوجية التي ينتمون إليها. أتكلم من موقع خبرة وتجربة، وأعلم يقيناً طيبة الرجل الشخصية، وأخلاقه العالية، وتعاطفه مع الناس، ومسارعته إلى النجدة إن كان ذلك ضمن استطاعته. وإن أحببتم، أستطيع أن أذكر لكم نماذج من التَنَمُّرِ الإيديولوجي على متدينين في مؤسساتٍ يعمل فيها بعض من يشنّون الحملة الشعواء اليوم، التي أتمنى أن تقف عند هذا الحد، وأن نناقش الفكرة بالفكرة، وأن نعمل معاً لما فيه خير أمتنا وحريتها وكرامتها.