مذهلٌ فعلًا حجم ونوع المنشورات والتعليقات والمشاركات، التي لا يعرفُ هذا المتابع الفضوليّ، كيف تمكنّا من الإحاطة بها في كلّ هذا الزحام اليوميّ الذي يبدأ مع ساعات الصباح الباكر: أعمال متراكمة تنتظر من هذه الآلات البشرية إنجازها، قصائد ومحاضرات ودروس تنتظر طالب العلم أن يحفظها عن ظهر قلب، ويهضمها دون أن يفهمها، ثم يلفظها وقد حوّلها إلى نصوص مقدسّة غير قابلة للاجتهاد، يرمي بها في وجه من يخالفه الرأي.
لكنّ هذا الزخم دائمًا يفتح علينا باب التساؤل عن رأينا وما صنعنا فيما نعيشه في الواقع، هنا في هذا البلد الذي وصلت فيه نسبة البطالة إلى 15.8%، أي ملامسة للنسبة التي أشعلت فتيل الاحتجاجات عام 2011 في دمشق (16.3%). الشيء بالشيء يُذكر، دمشق التي نزل عشرة آلاف أردني للدّعاء في ليلة القدر، منتصف 2011، لإسقاط رئيسها، تذكّرنا دائمًا أنّ الحراك الأردني بكافّة أطيافه، بما فيها الحركة الإسلامية التي قادت احتجاجات السفارة السورية، لم تحشد هذا الرقم إبّان "هبّة تشرين" التي خرجت للاحتجاج على سياسات حكومة عبد الله النسور ورفع أسعار المحروقات، فهل نهرب من وجه قضايانا حقًا؟
المتابع ذاته، وقد رآنا نشنّ حربًا شعواء ضد إقامة حفل "مشروع ليلى"، ظنّ ذائقتنا الفنيّة تضعُ رياض السّنباطي وعبد الوهّاب مقياسًا لما نسمع وما ننبذ، لا يعرفُ أنّ هذه الاحتجاجات تأتي من أشخاصٍ معظمهم ليس لديهم أي مشكلة فنيّة/ ثقافية مع مطربين محلييّن مثل عمر العبد اللات، صاحب "طارت طيّارة من فوق الزرقا"، وحسين السّلمان صاحب "عبد الله الثاني خلّف اثنينِ، هاشم الغالي والبِكر حسينِ"، والقائمة تطول، قبل أن تصل إلى الإشارة أنّ مدير أهم صرح ثقافيّ في الأردن اعتدى بالضّرب على فنانين أثناء حفلٍ موسيقي، وتلّفظ بألفاظٍ سوقية وعنصريّة، كانت لتذهب بغيره إلى محكمة أمن الدولة، ومع ذلك فهو على رأس عمله حتى الآن، بعد أن لعنَ الله الفتنة وأبقاها نائمة، ومنَّ على الناشطين بذاكرة السّمكة والصّبر والسّلوان.
لا تكاد صفحة مؤيّدة للرئيس المعزول محمد مرسي، أو ساخرة من الحالي، عبد الفتاح السيسي، أو من كليهما معًا، إلا وتجد الناشط الأردني من أبرز المتابعين والمشاركين لها، وهو أمرٌ ينطبقُ على صفحات تتعلّق بالموقف من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والمعارضة السورية بكل أطيافها، وكذلك صفحات تأييد الأسد، لكنّ حجم هذا التفاعل ينسحب عكسيًا كلّما اتجهنا لصفحات الداخل الأردني، إذ شاركنا على خجلٍ واستحياء في صفحة المقاطعة، التي أُنشئت احتجاجًا على ارتفاع أسعار السلع الرئيسية، وكدنا أن لا نشارك في أي احتجاج على اتفاقية الغاز مع إسرائيل، لولا أن النّشطاء أنفسهم، الخمسمائة تقريبًا، الذين حملوا عبء "هبّة تشرين"، أنقذوا الموقف الشعبي بتنظيم بعض الوقفات الاحتجاجية.
هذه الازدواجيّة في التعبير عن المواقف وصلت إلى حدّ ابتلاعنا دجاجًا فاسدًا، وكان على بطوننا أحلى من العسل أن نهاجم التجّار الجشعين، لا غياب الدولة التي أقصت وزارة التموين، وسمحت للتّجار بالتلاعب في أسعار السلع وصحّتنا وعافيتنا، قبل أن نعود للانشغال بالكوليرا التي تجتاح اليمن، وهي مأساة حقًا تُضاف إلى ما يعانيه هذا البلد من حربٍ ظالمة، ولكنّ المؤسف أكثر أنّنا فعليًا لا يمكن لنا التأثير بأي قرار، ولا حتّى المساعدة طالما أننا نأكل الدجاج الفاسد وفَمُنا مطبقٌ ونحتاج من يساعدنا.
نحن بحاجة فعلًا لهذه الطّاقات، وكل هذه المواهب في التحليل والتنبؤ، ولكن علينا توجيهها قليلًا إلى الداخل، ففاقدُ الشيء لا يعطيه، ولا مفرّ من صقلِ أفكارنا ومواقفنا من الشأن الداخلي، والتجرؤ على تناول قضايانا وإصلاح ذاتنا، لنتمكّن فعلًا من التأثير في القضايا الإقليمية والقوميّة التي ننشغل بها اليوم كظاهرة صوتيّة لا أكثر، ودون أن نُحدث أيّ فارق.
علينا حقًا أن نعي مشكلاتنا ونناضل بكل طاقاتنا ونكون مؤثرين وفاعلين في حلّها والضّغط للحيلولة دون أسبابها، فمع كل ما نعيشه من أزمة اقتصادية وبطالة ومعدّلات فقر فاقت الـ 14.4% ، وترتفع إلى 16.8% في الأرياف، أي نصف النسبة التي وصل إليها السوريون قُبيل الاحتجاجات أيضًا؛ لا يمكننا أن نستمر بتجاهل كل ما يحدث وننشغل بقضايا الجيران والأصدقاء والغرب والشرق. لا يمكننا أن نواصل تصدّرنا لقائمة أكثر الشّعوب هربًا من وجه قضيّتهم.