النائم فوق سطح طيني

18 اغسطس 2016
حسين عبيد/ عُمان
+ الخط -

في السنوات الثلاثين الماضية بنى الطين منازل. تجمَّعت المنازل في إحدى الحارات. كانت حارة الطين قبل سنوات عديدة أحدث حارات المكان. أصبحت بيوت سعف النخيل حارة قديمة جدّاً. ترك الناس العرشان لحيواناتهم الأليفة. من تقيأته الكويت والسعودية والبحرين من جوفها بعد نداء السبعين بنى بيت طين.

بعد منتصف السبعينيات من القرن العشرين، استطاع العمانيون بناء بيوت من رمل وأسمنت.

في الثمانينيات، تحوَّلت حارة بيوت الطين إلى حارة قديمة جدّاً.

اندثرت العرشان.

الحيوانات وجدت زرائب عصرية.

تحوَّلت بيوت الطين إلى سكن للأفاعي والحشرات اللاسعة.

أمام حارة الطين حوَّل الناس المكان إلى سوق شعبي.

عندما غزا العمّال الأجانب الأرض؛ لزراعة الحياة، أجَّرهم السكان بيوت الطين، فأضافت دخلاً آخر لمن بنى بيت طين بعد صوت يوليو.

في عام ألفين للميلاد، وصلت امرأة من زنجبار تسأل عن زوجها. لم تكن الزنجبارية تعرف العربية مطلقاً، لكنها وجدت أناساً يجيدون اللغة الزنجبارية. استوعب منها أهل المكان أنها آخر نساء أفريقيا تعود إلى الوطن تابعة زوجها الهارب إلى عُمان.

استقبلها الناس استقبال الكرماء.

من يعرف لغة أهل الساحل الأفريقي أفهمته أنها تسأل عن زوجها "رشيد عبيد شارد الشاردي".

خرجت صورة رشيد عبيد من محفظة المرأة القادمة إلى عُمان قبل يومين. مرّت الصورة أمام أعين الرجال والنساء.

ظهر رشيد في الصورة إنساناً أسود ذا لحية دائرية. أنفه منبسط في المساحة التي تأتي فوق شاربيه. شارباه لم يكونا كثيفين. تظهر فتحة دائرية في أذنيه. بدا لمن رآه في تلك الصورة أنه سعيد جدّاً لحظة أن أُخذتْ له هذه الصورة.

اقترح بعض الرجال على المرأة الزنجبارية أن تذهب إلى أماكن أخرى في رحلة للبحث عن زوجها، وهي أماكن استقر فيها عدد غير قليل من أهل زنجبار. هناك شكَّلوا بيوتاً في بعض مناطق الريف العماني. كما أن بعضهم كان قد اتّخذ العاصمة مستقرّاً ومستودعا لأحلامه.

أقلّية استقرّت في الريف.

أكثرهم تكاثروا في سيح الظبي، ومدينة النهضة.

أكملت المرأة الزنجبارية ثلاثة أيام، تتردّد من حارة إلى أخرى، تُفطر في هذا البيت، ووجبة غدائها وابنها في بيت آخر. تنام في بيت ثالث بعد وجبة عشاء خفيفة.

استلطف أطفال المكان ابنها الذي يسير خلفها.

يظهر الولد خلف أمّه كحمل وديع. اتّخذ صبية الحارة الذين يلعبون الكرة الزنجباري الصغير صديقاً لهم. ردّدوا خلفه بعض الكلمات الزنجبارية. حفظوا منه كلمة "نجوه"؛ لكثرة ما قالها في عصاري أيامه الثلاث. تفوّه بهذه الكلمة لحظة أراد مناداة أحد الأولاد الذين يلعب معهم.

منذ اليوم الرابع، أصبح الولد يُنادى "نجوه".

قرّر الفريق الرياضي أن يضم "نجوه" حارس مرمى للفريق.

في إحدى المباريات التي لعبها فريق الحارة الرياضي. كان "نجوه" السبب الرئيس في هزيمة الفريق. منذ ذلك اليوم، حوّل من يعرف بعض الكلمات الزنجبارية "نجوه" إلى "قوقو". هكذا صار اسم الزنجباري "قوقو".

لم يتوقّع الصبي الزنجباري أن هذه الكلمة ستصبح لقبه ما دام في هذه الحارة.

بعد اليوم الرابع من قدوم الزنجبارية إلى هذا المكان، أخذها عضو مجلس الشورى إلى الشيخ. اتفق الرجلان أن يُخليا أحد بيوت الطين للزنجبارية وابنها الذي في طريقه إلى سن الخامسة عشرة. اختار الرجلان أكبر بيوت الطين في الحارة القديمة. كان بيت جد شيخ القرية.

يتكوّن بيت جد شيخ القرية من ثلاث غرف طين وصالة طويلة.

بين الصالة والغرف فضاء مسوَّر بجدار من طين. في إحدى زوايا الفضاء الخارجي ثمّة جذع نخلة.

مُدَّ الجذع درجاً لمن أراد صعود سطح غرف الطين.

فرحت الزنجبارية مستأنسة ببيت الطين. ظلّت تقطع الأمكنة سيراً على قدميها. كلّما رأت سحنة بشرية تشبه سحنتها، أو سحنة أحد الزنجباريين أخرجت له صورة رشيد. أثناء سيرها رأت رجلاً أسمر ذا دشداشة بيضاء، فأخرجت الصورة. أطال النظر في ملامح رشيد، فهمت من هذا الرجل أن زوجها قد مات بعد قدومه إلى عُمان. بدأت تسأله، وكان يجيبها عن أسئلتها برحمة وصبر شديدين.

عادت إلى بيتها.

مراوح غرف الطين تعزف لقدومها. ثمّة حشرات تصارع المصباح.

محت زوجها من ذاكرتها. عاهدت نفسها أن لن تخبر ابنها عن مصير والده. بدأت في إخراج ما حملته معها من زنجبار.

دارت موزِّعة على بيوت حارات الأسمنت هدايا بسيطة من زنجبار. أعطت البيت الذي تغدّت فيه ملعقة كبيرة مصنوعة من أخشاب غابات زنجبار. والبيت الثاني كُمَّة زنجبارية. أما البيت الثالث فكان له كيس بهارات أفريقية.

بعد أيام كثيرة، صارت واحدة من أهل المكان. وعدها الشيخ والعضو باستخراج جواز سفر عُماني لها في أقرب لقاء بالوزير.

حلّ القيظ، وصيَّفت الأمكنة. اشتدّت الحرارة على الطين. عزفت مراوح بيت الطين أنشودة الدوران البطيء. تحوَّل الطين إلى لهب من قلَّة المطر. هذا أول صيف يحل على خزينة بنت صبيّح المخزوني خارج زنجبار. إنه صيف عُمان الجهنمي.

في الليل يصعد "قوقو" إلى سطح بيت الطين؛ هناك حيث حر الصيف أبرد في الليل.

سرير من حديد وجده "قوقو" في السطح قبل أيام. قد يكون السرير تركة أحد الآسيويين الذين سكنوا هذا البيت قبل صيفين أو أكثر. يتمدّد فيه متذكّراً زنجبار التي غادرها قبل شهر تقريباً. تنخفض النجوم مقتربة من عينيه. يرفع يديه لها، فتبتعد عنه. يغازل القمر بشرته. يقلّب جسده النحيف ذات اليمين تارة، وذات الشمال تارة أخرى؛ إلى أن يصيده النوم ساحباً تفكيره إلى استراحة مُعتمة.

في أحد الصباحات جاء من طلب من أم "قوقو نجوه" سرير الحديد الذي فوق السطح.

في مساء يوم جديد نام "قوقو" في سطح الطين دون سرير. مدّ لحافه الخفيف. رشَّ السطح بماء؛ كي يبرد الطين.

لم يقتنصه النوم لحظة أن هبَّت ريح باردة على جسده، سمع صوت رجل يتحدّث إلى أمه داخل إحدى الغرف. نزل مردّداً اسم والده، فوجئ بأمه في ظلام الغرفة، سألها:

- هل جاء أبي؟

- لا

- سمعت صوتاً.

- أنت تحلم.

امتصَّه جذعُ النخلة حتى سطح البيت. تمدّد في السرير، فسمع الصوت الأول نفسه . من فوق السطح راقب مدخل البيت. آخر الليل رأى دشداشة بيضاء تسير خارجة من بيتهم الطيني. رفع صوته قائلا: بابا.

توارى الرجل مختفياً في ظلمة الحارة القديمة.

خرج المصلّون من مسجد الحارة، ظلام الفجر يتباهى بسواده الجاثم فوق الحارة. بعض المصلّين تأخّر لدعاء ربه.

من تأخّر في المسجد بعد الصلاة مرَّ أمام شجرة ضخمة ليست بعيدة عن حارة الطين، عروقها فتحت بطن الأرض، جذعها ممتد إلى نقطة لا يصلها النظر، قربها أطول جدار سطح طين في الحارة، تحته دم جثة هامدة، وثمّة أناس يحاولون معرفة جسد الصبي الملتحف بالدّمِ والتراب.


* قاص وروائي عُماني من مواليد 1980، والقصّة من مجموعته "لا أمان في الماء" الصادرة عن "الانتشار العربي" في بيروت، 2012.

دلالات
المساهمون