المُجرب يُجرب ولا "شلع قلع" كلهم عائدون
مع دخول قوات الاحتلال الأميركي للعراق بزعم تحريره من "النظام البعثي"، انقسم الشعب ما بين مؤيد ومعارض لذلك الغزو الذي راح ضحيته الآلاف، وهنا كانت النواة الأولى لتمزق البلد ووصوله إلى القعر وتدمير بناه التحتية وآثاره وكل ما يملك من حضارة وتاريخ.
نعم، لقد جاء الاحتلال الأميركي البريطاني إلى العراق مدمراً، وهذا ما اتضح لاحقاً للشعب العراقي وللعالم، وأكده قادة تلك الدول الغازية لهذا البلد الجريح المكلوم الذي لم يستفق من حصار التسعينيات، وقبله من حرب الخليج، وقبله من حرب الثمانية أعوام التي أرهقت كاهله ودمرت شبابه، وإن كان هو المنتصر فيها.
لقد ابتكر الاحتلال الأميركي نظام الطائفية و"المحاصصة" في توزيع المناصب الرئاسية في البلد، ووزع الثروات على أسس طائفية، كيف لا وهو من ساهم وسنّ الكثير من القوانين التي لا تزال سارية المفعول في زمن الحاكم الأميركي آنذاك بول بريمر، ولا يزال الحكم في البلد يدار منذ سبعة عشر عاماً ولغاية الآن بذات الآلية والطريقة، مع تبادل المناصب بين "العرب السُّنة والكورد" رئاسة الجمهورية ومجلس النواب، وبعض المناصب الوزارية بين المكون "السُّني والشيعي".
كل ما يجري وجرى خلال الأيام الماضية يؤكد بما لا يقبل الشك أن ما نتمناه وننتظره هو سراب يحسبه الظمآن ماءا
وقد أقرّ العديد من السياسيين العراقيين بعدم القدرة على تجاهل هذا الإرث الاحتلالي، لكن بقيت الأمنيات والمطالبات قائمة بأن يستطيع العراق يوماً ما الخروج من عنق زجاجة المحاصصة الطائفية، وبناء عراق المواطنة. أصوات كثيرة تعالت، ومنها لقادة كتل وأحزاب، تطالب رئيس الحكومة المكلف مصطفى الكاظمي بأن يشكّل حكومته بعيداً عن المحاصصة الطائفية والعرقية وإعادة توزيع المناصب والدرجات الخاصة على أسس غير طائفية وبعيدة عن المحسوبيات، وهذا ما أكده المكلف بنفسه في أثناء تسلمه رئاسة مجلس الوزراء.
جاءت الأيام بعدها لتؤكد صعوبة تطبيق ما قطعه المكلف على نفسه، والوعود التي أطلقها لم تكن سهلة التنفيذ في بلد تعصف به الأزمة المالية وكورونا وكل نوائب هذا الزمان، بالإضافة إلى المحاصصة والمحسوبية التي وصلت إلى داخل المكون الواحد ذاته، وهذا ما سمعناه عند إعلان أسماء المرشحين لوكالة الوزارات والمؤسسات الأمنية، فبات مصطلح "سُنّة نينوى" و"سُنّة الأنبار" و"شيعة واسط" و"شيعة البصرة" هو السائد، فبعد أن كنا نحلم بالقضاء على المحاصصة المذهبية، باتت هناك محاصصة داخلية في المكون الواحد.
أصوات عديدة من داخل العراق وخارجه تقرّ بأن العملية السياسية كانت دائماً غير ناجحة، لأنها مبنية على أساس المحاصصة الطائفية، وأن التوافق على هذا الأساس لا يؤسس لتنمية أو ازدهار في العراق، وهذا ما يردده قادة البلد ومن توالى على رئاسة الوزراء والجمهورية والبرلمان، ذلك أن النظام السياسي الذي يبني على أساس توافقي ووفق نظام المحاصصة ينتج وضعاً سياسياً ضعيفاً غير قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
محللون وسياسيون مستقلون أكدوا أن "التوافق السياسي يؤثّر على نحو سلبي بمجمل أوضاع البلد، ويجعل البرلمان بصفته السلطة التشريعية، غير قادر على أداء الدور الرقابي، لكونه لا يستطيع محاسبة أي وزير أو مسؤول بسبب انتمائه إلى حزب وكتلة طائفية تدافع عنه وعن فشله أو سلوكه، بما في ذلك الخاطئة، كذلك إن المحاصصة تراعي الترضية لأطرافها على حساب الكفاءات".
القيادات والزعامات السُّنية والشيعية والمراجع الدينية يؤكدون دائماً ضرورة تجاوز هذه المرحلة وتوزيع المناصب على أسس الكفاءة والنزاهة والسمعة الطيبة، إلا أن كل ما يجري وجرى خلال الأيام الماضية يؤكد، بما لا يقبل الشك، أن ما نتمناه وننتظره هو سراب يحسبه الظمآن ماءً، وتمنيت ألا أكون متشائماً كثيراً، لكن لا يدل أي شيء على أرض الواقع على غير ذلك، ولم تعد لشعارات "الشلع قلع" والمجرب لا يجرب، مكان داخل نفوس المواطنين ولا أي اعتبار عند السياسيين.