08 نوفمبر 2024
الموصل.. من هولاكو إلى آخر
لم يتأخر رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في التوجه إلى مدينة الموصل، لإلقاء خطاب "النصر"، معلنا، يوم الاثنين الماضي: "انتهاء وفشل وانهيار دولة الخرافة والإرهاب الداعشي الذي أعلنه الدواعش هنا من مدينة الموصل قبل ثلاث سنوات". طبعا، إحالة العبادي هنا واضحة، فهو يتحدّث عن افتكاك المدينة وتحريرها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، والتي كان خليفتها المزعوم، أبو بكر البغدادي، قد أعلن في الرابع من يوليو/ تموز 2014 من على منبر الجامع النوري الكبير في المدينة "الخلافة وتنصيب إمام"، ولم يكن ذلك "الإمام" سوى البغدادي نفسه، وذلك بعد أن تمكّن بضع مئات من مقاتلي تنظيمه من هزيمة عشرات الآلاف من جنود ورجال أمن الدولة وطردهم (1). وبعيدا عن مظاهر البهرجة الرسمية المبالغ فيها التي استدعت أسبوع عطلةٍ في العراق للاحتفال بـ"النصر"، فإن ما لا يمكن الجدال فيه أن هذا "النصر" المزعوم كارثي بكل ما تحمل الكلمة من معنى. الأدهى، أن هذا "النصر" المُدَّعى تعبيرٌ عن هزيمة أعمق مُنِيَ بها العراق وشعبه.
بداية، لم يتحقق هذا "النصر" إلا على أشلاء شعب الموصل، حيث تقول إحصائيات الأمم المتحدة أن قرابة مليون مدني من قاطني المدينة الذين يفوقون المليونين، قد فرّوا من منازلهم منذ بدء العمليات العسكرية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. وما زال أكثر من 700 ألف شخص مشردين، ويتعرّضون إلى كل أنواع الانتهاكات الإنسانية على أساس طائفي من القوات العراقية والمليشيات الشيعية، كما أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. أيضا، لا تُعرف إلى اليوم الأعداد الحقيقية للقتلى المدنيين في المعارك، وإن كان مؤكدا أن
أعدادهم أكبر بكثير من الأرقام التي أعلنتها السلطات العراقية. وحسب منظمة العفو الدولية في تقرير لها، يوم الثلاثاء الماضي، كان المدنيون في الموصل ضحايا مزدوجين لتنظيم داعش الذي استخدمهم دروعا بشرية، في حين لم تتردد القوات العراقية، مدعومة بالتحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة، في قصفهم من دون أخذ أدنى الاحتياطات اللازمة لتجنيبهم ويلات الصراع. وخلص تقرير المنظمة إلى أن الأساليب التي استخدمتها القوات العراقية، والتحالف العسكري بقيادته الأميركية، شكلت خرقا للقانون الإنساني الدولي، وربما ترقى إلى مستوى جرائم الحرب. أما المنسقة الأممية للشؤون الإنسانية في العراق، ليز غراندي، فقد حذرت من الأوضاع الإنسانية الكارثية التي يعيشها النازحون، في غياب "المأوى والغذاء والرعاية الصحية والماء والصرف الصحي وأدوات الإسعافات الأولية". وأضافت أن "مستويات الصدمة النفسية التي نشهدها من أعلى المستويات على الإطلاق. ما مر به الناس لا يمكن تصوّره".
في السياق الإنساني الكارثي نفسه، لا يمكن تصوّر حجم الدمار الذي لحق بالمدينة أيضا، مع تدمير أحياء كاملة فيها، بما فيها المدينة القديمة وكثير من معالمها التاريخية، ومن ضمنها الجامع النوري الكبير ومنارته الحدباء الشهيرة، والتي يتهم كل طرفٍ من أطراف الصراع الآخر بتدميرها. لا شك أن "داعش" تنظيم همجي، لا يتورّع عن سفك الدماء، كما أنه لا يتورّع عن تدمير الآثار ومحاولات طمس التاريخ الإنساني، كما رأينا في تدمر والموصل من قبل. ولكن هذا لا يجعل منه وحده تعبيرا عن "مغول العصر"، فسجلّ الولايات المتحدة ليس أفضل حالا في هذا المجال، وهي من دمرت العراق من قبل، واستباحت حماه، بذرائع مكذوبة ملفّقة، ترتب عليها سفك دماء مئات الآلاف من شعبه، وتدمير حضارته العريقة، ونهب آثاره التاريخية وبيعها في السوق العالمية السوداء. ينطبق الأمر نفسه على السلطات العراقية والمليشيات الشيعية الطائفية المتحالفة معها، فهم في تدمير الإنسان والحجر العراقي شركاء. وعودة إلى تقرير منظمة العفو الدولية السابق، فإنه اتهم القوات العراقية وقوات التحالف بشن سلسلة من الهجمات المخالفة للقانون في غرب الموصل، منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، معتمدين بشدة على قذائف صاروخية ذات قدرة استهداف محدودة، ما ألحق دمارا بمناطق ذات كثافة سكانية عالية. وقال التقرير "حتى في الهجمات التي يبدو أنها أصابت هدفها العسكري المنشود، أدّى استخدام أسلحة غير مناسبة، أو عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة، إلى خسائر في الأرواح بين المدنيين، من دون داعٍ. وفي بعض الحالات، مثلت على ما يبدو هجماتٍ غير متناسبة".
كل ما سبق، على الرغم من كارثيته، هو الجانب الأقل مأساويةً في المشهد، فالداهية الأكبر تتمثل في تمزيق النسيج العرقي والطائفي والوطني والشعبي العراقي. منذ نكب العراق بالغزو الأميركي عام 2003 لم تقم لبنيته المجتمعية وتجانسها قائمة. هذا لا يعني أن العراق كان أنموذجاً براقاً للتعايش بين مكوناته العرقية والطائفية من قبل، ولكنه أيضا لم يكن نموذجا للفشل الفَجِّ. تُجْمِعُ الآراء على أن "داعش" ما كان له أن يسيطر على الموصل ومدن وبلدات عراقية أخرى عام 2014، لو أنه لم يكن هناك هشيم طائفي وإثني نَتِنٌ قائم، أشرف على هَنْدَسَتِهِ حينئذ رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، وكثير من التيارات الشيعية الطائفية المتحالفة معه، والتي مَكَنَها الغزو الأميركي- البريطاني من اختطاف البلد. صحيحٌ أنه تمَّ التخلص من المالكي بعد سقوط الموصل بيد "داعش" عام 2014، بهدف التأسيس لشراكة وطنية عراقية جديدة، تشمل الجميع، سنة وشيعة، عربا وأكرادا.. إلخ، إلا أن خليفته، العبادي، فشل فشلا ذريعا في تحقيق الوحدة الوطنية المنشودة، بل انتهى به الحال أسيرا لمليشيات الحشد الشعبي الشيعية الطائفية المدعومة من إيران.
وكان من اللافت أن العبادي، في خطاب "النصر" في الموصل، حرص على تحية "المرجعية الدينية الرشيدة لسماحة السيد السيستاني والفتوى الجهادية التأريخية" التي أصدرها لمحاربة
"داعش"، على الرغم من أنها أدت، في المحصلة، إلى الانتقاص من سلطة الدولة وقواتها وارتهانها للمليشيات الطائفية وراعيها الإيراني. ولا ينبغي هنا أن ننسى أن "الفتاوى" الدينية الطائفية التي أطلقها أمثال السيستاني وغيره هي من أسّست، سواء من حيث أرادت ذلك أم لا، للجرائم الوحشية التي ارتكبتها مليشيات شيعية طائفية، كما جرى في ديالى وتكريت عام 2015، غداة استعادتهما، هما أيضا، من "داعش"، والتي وصلت إلى حَدِّ العبث بالمعادلات الديمغرافية في المدن والبلدات العراقية. بل إن زعيم مليشيات عصائب أهل الحق الشيعية، قيس الخزعلي، لم يتردّد، العام الماضي، في القول إن "معركة تحرير الموصل ستكون انتقاما وثأراً من قتلة الحسين، لأن هؤلاء الأحفاد من أولئك الأجداد".
باختصار، مشروع إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، لـ"دمقرطة الشرق الأوسط الكبير"، انطلاقا من العراق، انتهى بنا إلى فوضى تدميريةٍ خلاقة في المنطقة كلها، أو ما سمّته حينها وزيرة خارجيته، كونداليسا رايس، "الفوضى الخلاقة". لقد انفلت الإرهاب المجنون من عقاله، كما أطلت الأحقاد التاريخية، العرقية والمذهبية، برأسها من جديد، وَتَدَمرَتْ دول، وسقطت أنظمة، وتعاظم القتل والتدمير في صفوفنا، وعاد الاحتلال الأجنبي المباشر إلى دولنا، وتنامى بأسنا الشديد بيننا.. إلخ. كل هذا، وأسوأ منه وقع، من دون أن تقوم دولة المواطنة، ولم نخرج من قاع البئر التي نقبع فيها من دون أمم الأرض قاطبة. فعن أي تحريرٍ في الموصل يتحدّثون، وبأي نصرٍ يحتفلون؟ كل ما في الأمر أن هولاكو ذهب ليحل محله هولاكو آخر، وهكذا دواليك، حتى يأذن الله بثوراتٍ شاملةٍ مطلقة، لا تبقي من أصنامنا قاطبة إلا جُذَاذًا.
بداية، لم يتحقق هذا "النصر" إلا على أشلاء شعب الموصل، حيث تقول إحصائيات الأمم المتحدة أن قرابة مليون مدني من قاطني المدينة الذين يفوقون المليونين، قد فرّوا من منازلهم منذ بدء العمليات العسكرية في أكتوبر/ تشرين الأول 2016. وما زال أكثر من 700 ألف شخص مشردين، ويتعرّضون إلى كل أنواع الانتهاكات الإنسانية على أساس طائفي من القوات العراقية والمليشيات الشيعية، كما أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. أيضا، لا تُعرف إلى اليوم الأعداد الحقيقية للقتلى المدنيين في المعارك، وإن كان مؤكدا أن
في السياق الإنساني الكارثي نفسه، لا يمكن تصوّر حجم الدمار الذي لحق بالمدينة أيضا، مع تدمير أحياء كاملة فيها، بما فيها المدينة القديمة وكثير من معالمها التاريخية، ومن ضمنها الجامع النوري الكبير ومنارته الحدباء الشهيرة، والتي يتهم كل طرفٍ من أطراف الصراع الآخر بتدميرها. لا شك أن "داعش" تنظيم همجي، لا يتورّع عن سفك الدماء، كما أنه لا يتورّع عن تدمير الآثار ومحاولات طمس التاريخ الإنساني، كما رأينا في تدمر والموصل من قبل. ولكن هذا لا يجعل منه وحده تعبيرا عن "مغول العصر"، فسجلّ الولايات المتحدة ليس أفضل حالا في هذا المجال، وهي من دمرت العراق من قبل، واستباحت حماه، بذرائع مكذوبة ملفّقة، ترتب عليها سفك دماء مئات الآلاف من شعبه، وتدمير حضارته العريقة، ونهب آثاره التاريخية وبيعها في السوق العالمية السوداء. ينطبق الأمر نفسه على السلطات العراقية والمليشيات الشيعية الطائفية المتحالفة معها، فهم في تدمير الإنسان والحجر العراقي شركاء. وعودة إلى تقرير منظمة العفو الدولية السابق، فإنه اتهم القوات العراقية وقوات التحالف بشن سلسلة من الهجمات المخالفة للقانون في غرب الموصل، منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، معتمدين بشدة على قذائف صاروخية ذات قدرة استهداف محدودة، ما ألحق دمارا بمناطق ذات كثافة سكانية عالية. وقال التقرير "حتى في الهجمات التي يبدو أنها أصابت هدفها العسكري المنشود، أدّى استخدام أسلحة غير مناسبة، أو عدم اتخاذ الاحتياطات اللازمة، إلى خسائر في الأرواح بين المدنيين، من دون داعٍ. وفي بعض الحالات، مثلت على ما يبدو هجماتٍ غير متناسبة".
كل ما سبق، على الرغم من كارثيته، هو الجانب الأقل مأساويةً في المشهد، فالداهية الأكبر تتمثل في تمزيق النسيج العرقي والطائفي والوطني والشعبي العراقي. منذ نكب العراق بالغزو الأميركي عام 2003 لم تقم لبنيته المجتمعية وتجانسها قائمة. هذا لا يعني أن العراق كان أنموذجاً براقاً للتعايش بين مكوناته العرقية والطائفية من قبل، ولكنه أيضا لم يكن نموذجا للفشل الفَجِّ. تُجْمِعُ الآراء على أن "داعش" ما كان له أن يسيطر على الموصل ومدن وبلدات عراقية أخرى عام 2014، لو أنه لم يكن هناك هشيم طائفي وإثني نَتِنٌ قائم، أشرف على هَنْدَسَتِهِ حينئذ رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، وكثير من التيارات الشيعية الطائفية المتحالفة معه، والتي مَكَنَها الغزو الأميركي- البريطاني من اختطاف البلد. صحيحٌ أنه تمَّ التخلص من المالكي بعد سقوط الموصل بيد "داعش" عام 2014، بهدف التأسيس لشراكة وطنية عراقية جديدة، تشمل الجميع، سنة وشيعة، عربا وأكرادا.. إلخ، إلا أن خليفته، العبادي، فشل فشلا ذريعا في تحقيق الوحدة الوطنية المنشودة، بل انتهى به الحال أسيرا لمليشيات الحشد الشعبي الشيعية الطائفية المدعومة من إيران.
وكان من اللافت أن العبادي، في خطاب "النصر" في الموصل، حرص على تحية "المرجعية الدينية الرشيدة لسماحة السيد السيستاني والفتوى الجهادية التأريخية" التي أصدرها لمحاربة
باختصار، مشروع إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، لـ"دمقرطة الشرق الأوسط الكبير"، انطلاقا من العراق، انتهى بنا إلى فوضى تدميريةٍ خلاقة في المنطقة كلها، أو ما سمّته حينها وزيرة خارجيته، كونداليسا رايس، "الفوضى الخلاقة". لقد انفلت الإرهاب المجنون من عقاله، كما أطلت الأحقاد التاريخية، العرقية والمذهبية، برأسها من جديد، وَتَدَمرَتْ دول، وسقطت أنظمة، وتعاظم القتل والتدمير في صفوفنا، وعاد الاحتلال الأجنبي المباشر إلى دولنا، وتنامى بأسنا الشديد بيننا.. إلخ. كل هذا، وأسوأ منه وقع، من دون أن تقوم دولة المواطنة، ولم نخرج من قاع البئر التي نقبع فيها من دون أمم الأرض قاطبة. فعن أي تحريرٍ في الموصل يتحدّثون، وبأي نصرٍ يحتفلون؟ كل ما في الأمر أن هولاكو ذهب ليحل محله هولاكو آخر، وهكذا دواليك، حتى يأذن الله بثوراتٍ شاملةٍ مطلقة، لا تبقي من أصنامنا قاطبة إلا جُذَاذًا.