المواطن المصري والمؤتمر الاقتصادي
منذ تولي عبد الفتاح السيسي الرئاسة في مصر في يونيو/حزيران الماضي، ومؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي يمثل حجر الزاوية في دعايته السياسية. فالرجل الذي لا يملك خططاً واضحة لعلاج مشكلات مصر وضع تركيزه كله على ثلاثة محاور أساسية، هي تأجيل الحديث عن السياسة، باعتبار أن مصر تواجه تهديداً وجودياً، والتركيز في المقابل على الأمن، والاقتصاد. وتكشف تسريبات مكتب السيسي، عندما كان وزيراً للدفاع، وبعد انقلابه على الحكم الديمقراطي، حجم الآمال الضخمة التي وضعها على تدفق أموال الدول الخليجية الداعمة لانقلابه في صورة مساعدات قبل الاستثمارات. وقد قال وزير الاستثمار المصري، أشرف سليمان، في مؤتمر اقتصادي في دبي، أخيراً، إن دول الخليج الثلاث الداعمة للانقلاب العسكري، وهي السعودية والإمارات والكويت، قدمت مساعدات لمصر نحو 23 مليار دولار في الشهور الثمانية عشرة التالية للانقلاب، وقد تعطي تسريبات انطباعاً بأن قيمة المساعدات الخليجية كانت أكبر.
عموماً، يظل المبلغ المذكور من المساعدات ضخماً للغاية، حيث تقدر المساعدات السنوية التي تحصل عليها مصر من أميركا بحوالى 1.5 مليار دولار، وفي سياق تلك المساعدات الخليجية تم الإعلان عن المؤتمر الاقتصادي، والذي أطلق فكرته العاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، نوعاً من المبادرة والالتزام من المملكة بدعم النظام الجديد في مصر والعمل على إنجاحه. لذا، يحرص السيسي ونظامه على فعل كل ما في وسعهم لإنجاح المؤتمر، بالعمل على جبهتين أساسيتين متوازيتين.
الأولى الحديث عن تحسن الاقتصاد المصري نفسه. وهنا، قال وزير المالية المصري، هاني قدري، في سبتمبر/أيلول الماضي، إن "مصر تجاوزت بالفعل المرحلة العصيبة التي مرت باقتصادنا القومي، في مراحل الانتقال السياسي، وبدأنا ندخل في مرحلة بناء الثقة". وأخبرت الحكومة المصرية وفداً لصندوق النقد الدولي، زار البلاد في بداية العام الحالي، أن الاقتصاد المصري نما بمعدل 6.8% في الربع الأول من العام المالي الحالي (2014-2015)، وهي الثلاثة شهور الأولى من حكم السيسي، وأن الحكومة تتوقع أن ينمو الاقتصاد المصري بمعدل 3.8% في العام المالي الحالي، والذي ينتهي في يونيو/حزيران المقبل، كما تأمل أن تحقق معدل نمو سنوي قدره 6% في السنوات الخمس المقبلة، وقد وصفت بعثة الصندوق أهداف الحكومة المصرية السابقة بأنها "طموحة. ولكن، بشكل عام، يمكن الوصول إليها مع التطبيق الحثيث للسياسات".
ويقول المسؤولون المصريون أن اتخاذ السيسي خطوات مهمة، كتخفيض دعم الطاقة ورفع الضرائب، بالإضافة إلى المساعدات الخليجية، ساعد على تحقيق هذا التحسن. القضية الثانية التي يركز عليها المسؤولون المصريون، كلما اقترب مؤتمر شرم الشيخ، هي الترويج للمؤتمر الاقتصادي نفسه، والمشاريع والفرص الاستثمارية التي ستعرض على المشاركين فيه. وقد صرحت وزيرة التعاون الدولي المصرية، نجلاء الأهواني، مطلع الشهر الجاري، أن الحكومة المصرية ستعرض في المؤتمر 50 مشروعاً اقتصادياً ضخماً، بتكلفة تصل إلى 35 مليار دولار، وأن المؤتمر سيحضره 1700 مستثمر دولي، وأن مصر بالفعل وقعت عقوداً استثمارية بمبلغ 1.3 مليار دولار في الربع الأول من العام المالي الحالي، وتتمنى توقيع عقود استثمارية، تقدر بثمانية مليارات دولار قبل نهاية العام المالي في يونيو، وأن تصل الاستثمارات الخارجية في مصر إلى 15 مليار دولار سنوياً بحلول نهاية العام المالي 2018-2019. وهنا، يظهر أن الحكومة المصرية لا تتوقع دخول كل الاستثمارات المستهدف التعاقد عليها في المؤتمر (35 مليار دولار) خلال العام الحالي، وتعول كثيراً على مشروع تنمية قناة السويس وإقامة منطقة تنمية اقتصادية هناك، يحظى المستثمرون فيها بمعاملة ضريبية تفضيلية.
وهنا، يطرح السؤال حول معنى تلك الأرقام، ماذا يعني أن تحقق مصر نمواً اقتصادياً قدره 3.8% نهاية العام الحالي؟ وماذا يعني أن توقع عقوداً استثمارية بمبلغ 35 مليار دولار (لو تمكنت من ذلك خلال المؤتمر) تطبق على مدى ثلاث سنوات أو أكثر؟ ماذا تعني تلك الأرقام للمواطن المصري العادي، وكيف ستؤثر على حياته مباشرة؟ وهناك يظهر أن عقوداً من الإهمال الاقتصادي في مصر تركت 80 مليون مصري في أوضاع اقتصادية صعبة. مثلاً، لو حاولنا رسم صورة كلية، لوجدنا أن الدخل القومي في إسرائيل، مثلاً، بلغ في عام 2013 مبلغ 290 مليار دولار، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، في حين أن دخل مصر القومي في العام نفسه كان 270 مليار دولار، فيما سكان إسرائيل 8 ملايين فقط، أي عُشر المصريين. أما تركيا التي عدد سكانها 74 مليوناً، فقد بلغ دخلها القومي 822 مليار دولار. وفي إيران الأقل حظاً، يعيش 77 مليون مواطن، ويبلغ الدخل القومي الإيراني 368 مليار دولار.
يكشف هذا كيف حدّت عقود من الإهمال وغياب التنمية الاقتصادية الجادة من قدرات مصر الاقتصادية، وتركتها بدخل قومي منخفض أصلاً، لا يتيح موارد كثيرة للحكومة المصرية، حيث نجد، مثلاً، أن الموازنة المصرية التي تقدر بحوالى 105 مليارات دولار يذهب حوالى 80% منها إلى مصادر إنفاق ثابتة، مثل مرتبات موظفي الحكومة وفوائد الديون ودعم الوقود والغذاء، ولا يبقى للحكومة المصرية سوى مبلغ ضئيل للغاية، لإنفاقه على الاستثمارات الجديدة، يقدر بحوالى تسعة مليارات دولار فقط، في بلد ضخم سكانياً كمصر. وهنا تعد ميزانيات الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي منخفضة للغاية، فلما أرادت الحكومة المصرية، العام الجاري، زيادة معاش الضمان الاجتماعي الذي يقدم لثلاثة ملايين أسرة فقيرة في مصر، زادت المبلغ المقدم لأسرة من أربعة أفراد، من 300 جنيه إلى 450، ما يعادل 40-59 دولاراً شهرياً فقط.
وتعاني مصر، كما تشير كتابات دولية عديدة، منها تقرير صادر من البنك الدولي في العام الماضي، من تنمية غير عادلة ولا متكافئة الفرص، سمحت لأقلية صغيرة للغاية نافذة سياسياً من الحصول على الأراضي والطاقة بثمن بخس، والاستثمار في مشاريع قليلة العمالة، وموجهة إلى الخارج، بهدف تحقيق أكبر قدر من العوائد، بغض النظر عن حل مشكلات الاقتصاد المصري، خصوصاً في ما يتعلق بالحد من البطالة، وبمساعدة المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تمثل الغالبية العظمى للاقتصاد المصري. وهنا، تقول الحكومة الراهنة إنها تدرك ذلك، وتسعى إلى توجيه الدعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وبزيادة الدعم المباشر الموجه للفقراء، وبرفع الضرائب على الأثرياء، ومطالبتهم بتحمل تكاليف التنمية، وفي الوقت نفسه، تسعى الحكومة إلى إصدار قوانين جديدة، تسهل عمل المستثمرين وتشجعه.
وللأسف، تأتي تلك التصريحات، ويتم تطبيق تلك التشريعات والسياسات في جو بعيد للغاية عن الشفافية، وفي غياب برلمان منتخب، أو حكومة تعمل بشفافية وترحب بالمساءلة، وفي غياب أي نقاش جاد للسياسات، ناهيك عن حالة الانقسام السياسي وعدم الاستقرار الأمني والانتشار المخيف لانتهاكات حقوق الإنسان، وكلها عوامل لا تشجع المستثمر الأجنبي. ولذا، يمكن القول إن ما يمكن أن تحققه السلطات المصرية في مؤتمر شرم الشيخ هو توقيع استثمارات أجنبية، تحافظ لها على معدلات النمو المستهدفة، وهو أمر مفيد لمصر والمصريين، كما أن المؤتمر سيكون بمثابة رسالة دعم دولية للنظام من أنصاره في الخارج من ناحية، ولمصر من ناحية أخرى، فسيعبر في حالة خروجه بصورة جيدة عن رغبة دولية في استقرار الأوضاع الاقتصادية في مصر.
وفي ما يتعلق بالمواطن المصري العادي، لن يرى تأثيراً مباشراً للمؤتمر الاقتصادي على حياته اليومية، فتحقيق ذلك يتطلب عقداً أو عقدين من النمو الاقتصادي المرتفع مع إعادة هيكلة الاقتصاد المصري، لكي يخدم بالفعل الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ويركز على إيجاد فرص عمل ودعم المستثمرين الصغار، وتطوير التعليم والتكنولوجيا وتشجيع الصادرات المصرية. ولعل ذلك يتطلب، أيضاً، قدراً من الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتفاف المصريين حول رؤية واضحة للمستقبل، وبعض الثمار الاقتصادية والتنموية الإيجابية والواضحة، والتي يتوقعون قطفها ولو بعد حين.