المهاجرون وهذا السعي الأوروبي

30 يونيو 2018
+ الخط -
لا يزال الاتحاد الأوروبي يعاني من المعضلات ذاتها، بسبب تدفقات المهاجرين واللاجئين نحو أراضيه، فعلى الرغم من سياساته وآلياته واستراتيجيته المندمجة لتسيير الحدود لضمان حد أعلى من الأمن الداخلي في الاتحاد، وإنشائه فرونتاكس (الوكالة الأوروبية للتسيير العملياتي للحدود الخارجية)، إلا أن الضغط الهجراتي لم يتوقف، فيما تم الحد بشكل كبير من تدفقات اللاجئين، بفضل الاتفاق مع تركيا.
وبما أن كل هذه الإجراءات لم تؤت أكلها، تصاعدت التوترات بين دول الاتحاد بشأن الهجرة، وبالتحديد حول ثلاث قضايا أساسية. أولها المطالبة بالتخلي عن قاعدة دبلن التي بموجبها تتكفل الدولة التي دخل اللاجئ من ترابها الاتحاد الأوروبي بتسجيله، والنظر في وضعيته. وهذا طبعاً إجحاف في حق دول الاتحاد، الواقعة على أطرافه الجنوبية، لأنها الأكثر عرضةً لتدفقات اللاجئين والمهاجرين. ثانيها رفض نظام الحصص لتقاسم الأعباء بتوزيع اللاجئين على دول الاتحاد، للتخفيف على الدول الأكثر تضرراً. ثالثها ليس فقط مراجعة نظام شينغن (حرية تنقل الأشخاص داخل الاتحاد الأوروبي)، وإنما إلغاؤه بإعادة الحواجز على الحدود. ويعد هذا، إن حدث فعلاً، مراجعةً أساسيةً للفلسفة والقواعد والقيم التي تؤسس للاتحاد الأوروبي. وللتذكير، يقوم الأخير على الحريات الأربع للتنقل: البضائع، الخدمات، الاستثمارات، الأشخاص.
يشير هذا كله إلى تصدع غير مسبوق في العمران الأوروبي، المتعلق بالهجرة واللجوء، فكل الترتيبات الأوروبية على المحك، فالاتحاد تمكن، في 2016، من الاتفاقٍ مع تركيا ليس فقط على وقف جحافل اللاجئين الذين يصلون إلى اليونان، وبالتالي إلى أوروبا، وإنما لإنقاذ ما 
يمكن إنقاذه من أسس البيت الأوروبي المنقسم على نفسه. فريق متشدّد، إن لم نقل إنه عنصري في بعض مواقفه، يرفض استقبال المهاجرين واللاجئين، وفريق يقول بتحمل أوروبا جزءاً من العبء، شريطة تقاسمه بين دولها الأعضاء. إلا أن تنامي التيارات الشعبوية، وتقلب مزاج الرأي العام، المعارض في معظمه، لاستقبال المهاجرين واللاجئين، أضعفا موقف الفريق الثاني في مواجهة الأول، وزادا من حدّة المزايدات السياسية.
وقد تجسدت هذه التوترات والخلافات البينية الأوروبية في عدم اتفاق الزعماء الأوروبيين على صيغةٍ ترضي جميع الدول الأعضاء، وأيضاً في التراشق بينهما، كما حدث أخيراً بين الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيس الحكومة الإيطالية، عقب رفض الأخيرة السماح لسفينةٍ تابعةٍ لمنظمةٍ دوليةٍ غير حكومية، تقل مهاجرين الرسو في الموانئ الإيطالية، وبقيت تائهةً في عرض مياه المتوسط، قبل أن تقبل الحكومة الإسبانية استقبالها. ويتكرر هذا الأسبوع المشهد نفسه مع سفينةٍ أخرى تبحر في المتوسط، وعلى متنها مهاجرون.
الاتحاد الأوروبي في وضع لا يحسد عليه، فمعضلة الهجرة واللجوء تهدد بنسف بعض بناه الأساسية، لدقّها إسفينا بين دوله الأعضاء. وهو اليوم بين مطرقة قيمه الديمقراطية والإنسانية وسندان التيارات الشعبوية والمتطرّفة التي يحكم بعضها في أكثر من بلد (المجر، النمسا، إيطاليا...)، وحتى الرأي العام الأوروبي أصبح أقل تقبلاً للمهاجرين واللاجئين، خصوصا في هذا الظرف العسير من الإصلاحات البنيوية في دولٍ كثيرة، لما لها من تداعياتٍ على القدرة الشرائية للمواطن الأوروبي، جراء رفع الضرائب، وخفض مختلف المساعدات الاجتماعية، بل السعي، في بعض البلدان، إلى مراجعة منظومة الرعاية الاجتماعية، بسبب تكلفتها.
كما يوجد الاتحاد الأوروبي بين مطرقةٍ وسندانٍ من نوع آخر، ذلك أن المهاجر/ اللاجئ، سواء لقي حتفه في عرض مياه المتوسط، أو تم إنقاذه، يشكل محنة أوروبية. إن لقي حتفه يُعاب عليها عدم العمل بقيمها الإنسانية، وبقائها مكتوفة الأيدي أمام مأساةٍ إنسانيةٍ على مرمى حجر من حدودها الجنوبية، وإن تم إنقاذه يُعاب عليها عدم استقبالها له. فما العمل في ظل استمرار تدفقات المهاجرين واللاجئين، والانسداد سياسياً على مستوى الاتحاد، وتصلب عود التيارات الشعبوية والمتطرفة في دوله، والتي تضع الديمقراطية الأوروبية على المحك؟
ترى دول أوروبية عديدة أن الحل هو دفع الدول المجاورة للاتحاد الأوروبي إلى التكفل بالمهاجرين واللاجئين. والواضح أن تصوّرها يستند إلى مسلمةٍ، فحواها أن من دخل الأراضي الأوروبية يصعب ترحيله فيما بعد، بينما من السهل عودة الذين استقرّوا في البلدان المجاورة إلى بلدهم الأصلي. وعلى أساس هذه المسلمة، سعى الاتحاد الأوروبي جاهداً إلى التوقيع على الاتفاق مع تركيا، في مارس/ آذار 2016، لوقف تدفقات اللاجئين السوريين إلى أراضيه. ولم تتأخر ألمانيا حينها في الإعلان عن أملها في استنساخ هذا الاتفاق في بعض الدول العربية الإفريقية.
عاد الحديث، في الآونة الأخيرة، عن سعي أوروبا إلى إقامة مراكز إيواء في دول مغاربية، للحيلولة دون عبور المهاجرين المتوسط، ووصولهم إلى الأراضي الأوروبية، وبالتالي تجنب المعضلات الإنسانية، سواء بسبب غرق المهاجرين، أو بسبب رفض دول الاتحاد رسو السفن التي أنقذتهم في موانئها، والسياسية. وترى الأطراف الأوروبية، الساعية إلى إقامة مثل هذه 
المراكز على الضفة الجنوبية، أن الأخيرة ستسمح بعملية الفرز، أي التفريق بين الذين يهاجرون لأسباب اقتصادية، والذين يجب ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية، والذين هم بحاجة إلى حماية دولية. ومن ثم ردع المهاجرين عن بعد، حتى لا يحاولوا عبور البحر المتوسط. يفهم من هذا المسعى أن الدول الأوروبية، لا سيما الأكثر تشدّداً في مجال الهجرة، تريد عملياً تطبيق قاعدة دبلن التي ينادي بعضهم بإلغائها محلياً (داخل الاتحاد) في الجوار المتوسطي بتحميل الدولة العربية التي انطلق منها المهاجر/ اللاجئ الإفريقي أو العربي بالتكفل به، ودراسة وضعيته.
حتى يتحقق هذا المسعى، يجب توفر أربعة شروط معقدة على الأقل. أولاً، قبول دول جنوب المتوسط بهذه المناولة في مجال محاربة الهجرة. وبهذا الشكل الرسمي، أي إقامة مراكز إيواء للمهاجرين على أراضيها لحساب الاتحاد الأوروبي. ثانياً، تخصيص الأخير غلافاً مالياً معتبراً لإقناع تلك الدول، ولتمويل تلك المراكز. ثالثاً، اتفاق الدول الأعضاء على ميزانية مستدامة، وليس مجرد مبالغ ظرفية لإدارة الأزمة لا أكثر. رابعاً، قبول دول جنوب المتوسط، التي توافق على إقامة هذه المراكز على أراضيها، بأن تُسير الأخيرة وفق المعايير الأوروبية في مجال حماية حقوق الإنسان. وهذا مستبعد، إذ كيف بدولٍ تنتهك حريات مواطنيها أن تحترم حريات المهاجرين. ونافل القول إن مشروع المناولة واسعة النطاق الذي يسعى إليه الاتحاد الأوروبي تواجهه عقبات كبرى، سياسية ومالية ومعيارية.