المنازلة الآتية بين ترامب-بايدن: صراع على هوية أميركا وسياستها الخارجية

12 مايو 2019
ترامب مصافحاً بايدن عام 2017(مارك رالستون/فرانس برس)
+ الخط -

منذ إعلان نائب الرئيس الأسبق جو بايدن ترشيحه رسمياً للانتخابات الرئاسية الأميركية، أصبح المتصدر الفعلي بأشواط في استطلاعات الرأي للانتخابات التمهيدية في الحزب الديمقراطي تمهيداً لمواجهة محتملة في الانتخابات العامة مع الرئيس الحالي دونالد ترامب. بدأ الرجلان اختبار رسائلهما الانتخابية على بعد 18 شهراً من انتخابات العام المقبل التي ستقرر مصير إدارة ترامب ومستقبل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

الميزة التنافسية لبايدن أمام 20 مرشحاً ومرشحة في الحزب الديمقراطي، هي بطبيعة الحال خبرته في الحكم وفي سياسات الأمن القومي، فقد كان نائب الرئيس باراك أوباما على مدى ثماني سنوات، فضلاً عن خدمته 36 عاماً في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بما في ذلك رئيس هذه اللجنة بين عامي 2016 و2018. بايدن عملياً، هو المرشح الوحيد الذي يمكنه مقارعة ترامب (72 عاماً) وتسليط الضوء على عيوبه في عملية صنع قرارات الأمن القومي. لكن هذه الميزة هي أيضاً واحدة من نقاط ضعف بايدن (76 عاماً) باعتباره يمثل مؤسسة الحزب الديمقراطي الذي تزداد قاعدته شباباً مع الوقت ويميل أكثر إلى اليسار.

القاعدة الشعبية لكل من ترامب وبايدن على يمين ويسار السياسة الأميركية هي التحدي الأكبر الذي يواجه الرجلين. استطلاعات الرأي تشير إلى أن على بايدن تجاوز حاجز المرشح اليساري بيرني ساندرز، قبل حمل مشعل قيادة حزبه في الانتخابات النهائية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، كما فعلت المرشحة هيلاري كلينتون قبله في عام 2016. تكلفة هذه المعركة كانت كبيرة لكلينتون وأدت إلى خسارتها أمام ترامب، لعدم تمكنها من ضمان التفاف الحزب حولها ولا حتى بالإيحاء بحماسة شعبية تكفي لهزيمة ترامب. بالتالي إن بايدن أمام مواجهة قاسية، فعلى الرغم من الصداقة التي تجمعه مع ساندرز، نتيجة عقود من الزمالة في مجلس الشيوخ، غير أن المرشح اليساري وجّه رسائل عدة بأنه "جاهز للمعركة"، مبدياً اعتقاده بأنه "ليس هناك أي شك من هو تقدمي أكثر"، مقارنة مع نائب الرئيس السابق الذي وصف نفسه بأنه "أوباما - بايدن ديمقراطي"، لكنه لا يزال يحتاج إلى تعريف هذه الهوية الديمقراطية التي يطرحها. وعلى الرغم من ضراوة المعركة المنتظرة مع ساندرز، إلا أن بايدن يخوض حملته كأنه فاز سلفاً بترشيح الحزب الديمقراطي لمواجهة ترامب، متناسياً أن هناك نحو 20 مرشحاً ديمقراطياً لم يبدأوا حملاتهم عليه بعد، فضلاً عن حتمية هجوم الجناح اليساري في الحزب على نائب الرئيس السابق.


في المقابل، فإن ترامب لن يواجه أي مرشح جدي في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، وبالتالي سيكون عليه مواجهة سجله الرئاسي في الانتخابات العامة. مع الإشارة إلى أن القاعدة المحافظة هي التي تحرّك إلى حدّ كبير مواقفه وسياساته الداخلية والخارجية.
هذه الأجندة المحافظة، التي طبعت ولايته الأولى، ستعود لتطارد حملته الرئاسية، عندما يواجه الناخبين الجمهوريين المعتدلين والمستقلين الذين راكموا هواجس حيال سياساته.

في هذا الإطار، باشر ترامب معركته مركّزاً على بايدن لاعتباره أنه مثل تهديداً رئيسياً له وهو ما برز في كمية الانتقادات والتغريدات التي خصّصها له، لا سيما أن لبايدن قبولاً واسعاً بين الطبقة العاملة والمستقلين، وينافس ترامب في الولايات المتأرجحة، حيث العمال البيض لا يملكون شهادة جامعية مثل ويسكونسن، وميشيغين، وبنسلفانيا. وهو ما ينبئ بمواجهة حادّة بينهما وشرسة، نظراً لطباعهما ولتنافسهما على الفئات الشعبية ذاتها.

في شهر مارس/آذار 2018، كان يمكن رؤية أول نموذج عما قد تكون عليه هذه المواجهة حين قال بايدن: "كنت سأبرح ترامب ضرباً" لو كان في المدرسة معه، وكان رد ترامب "سأركل مؤخرته. سيكون الأمر سهلاً". كما أعطى ترامب لبايدن أخيراً لقب "جو النائم"، فيما وصف نائب الرئيس السابق الرئيس الحالي بأنه "مهرج". وتعدّ هذه الانتقادات الشخصية بمثابة تمهيد للنقاشات الآتية حول السياسة الخارجية.  

معركة بين رؤيتين

وبعد هذه الحرب التمهيدية، انتقلت الأمور إلى مستوى آخر، ففي فيديو إعلان ترشحه رسمياً، قال بايدن "اتخذت هذا القرار لأن القيم الرئيسية لهذه الأمة ومكانتنا في العالم وكل شيء جعل أميركا هي أميركا بات على المحك". تشير هذه العبارات إلى أن هناك رؤيتين ستطبعان المنازلة المقبلة، الأولى تتعلق بمكانة أميركا في العالم في ظل أوباما في مقابل مكانة أميركا في العالم في ظل ترامب، والثانية أن أوباما حاول استرضاء الأنظمة المارقة، "ترامب يحاول استرضاء الطغاة. عنوان هذه المواجهة هو النظام الليبرالي العالمي الذي يؤيده بايدن وأوباما، في مقابل الرؤية القومية التي يتبناها ترامب في شعار "أميركا أولاً".


في السياسة الخارجية، يخوض ترامب وبايدن حملتهما الانتخابية على خلفية سجل متناقض. الرئيس الحالي وإدارته لديهما مقاربة صارمة، لكن غير حاسمة فيما يتعلق بإيران وفنزويلا، في مقابل سياسة مهادنة مع روسيا وكوريا الشمالية وسورية. ترامب يمكنه القول بأنه استهدف النظام السوري عندما استخدم الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في مقابل سماح إدارة أوباما للنظام السوري بتجاوز الخطوط الحمراء. أكثر الانتقادات حدة لترامب ستكون بطبيعة الحال علاقته بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ظل الخطاب المتنامي المعادي لروسيا في الحزب الديمقراطي.

وباعتبار أنه لم يكن هناك أي اختراق مع كوريا الشمالية بعد قمتين مع الزعيم كيم جونغ-أون، سيتعرّض ترامب لانتقادات حول تعامله مع بيونغ يانغ، في وقت تستمر حربه التجارية مع الصين حتى الآن من جهة، فضلاً عن بقاء الرئيس نيكولاس مادورو في فنزويلا، من جهة أخرى، على الرغم من كل الضغوط الدبلوماسية الأميركية. بايدن سينتقد أيضاً سياسات ترامب حيال حلفاء واشنطن التقليديين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، فيما يرى الرئيس الحالي أن هذه البلدان لم تعد تستفيد من واشنطن من دون مُقابل. في المقابل، لدى الرجلين وجهات نظر متقاربة حيال ضرورة الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لا سيما أن إدارة ترامب بدأت محادثات سلام مع حركة طالبان، تمهيداً لبدء انسحاب أميركي من أفغانستان في نهاية المطاف.



يبدو أن ترامب سيركز في حملته الرئاسية على ما يعتبره إنجازين في سياسته الخارجية: انسحاب إدارته من الاتفاق النووي الإيراني، والدعم المطلق لإسرائيل، ما سيُلزم بايدن الدفاع عن ضرورة الحفاظ على ما يعتبره "إرث أوباما في المنطقة"، أي الاتفاق النووي مع طهران. أما في مسألة الدعم لإسرائيل، فقد يكون بايدن المرشح الديمقراطي الأكثر قبولاً بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لا سيما أنه كان يؤدي دوراً في الوساطة خلال فترات التوتر بين أوباما ونتنياهو من خلال منصبه كنائب للرئيس في ذلك الحين. بالتالي قد يستخدم بايدن سجله في الدفاع عن إسرائيل كحجة للدفاع عن بقاء واشنطن في هذا الاتفاق النووي. كما سيكون أمام ترامب تحدي الدفاع عن تخبط سياسته في سورية فيما يتعلق بالانسحاب الأميركي، لا سيما عندما تجاوز توصية وزارة الدفاع (البنتاغون) في هذا السياق، ما أدى إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس نهاية العام الماضي.

ولبايدن أيضاً سجل متناقض فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والتدخل في حروب خارجية. فهو بدأ حياته السياسية في مجلس الشيوخ عام 1973 عبر مواقف مناهضة لحرب فييتنام (1955 ـ 1975)، كما اعترض على حرب الخليج عام 1991، إثر اجتياح العراق للكويت عام 1990، ثم بدء عملية غربية وعربية مشتركة لتحريرها منها. لكن في المقابل دعم بايدن تدخل الحلف الأطلسي في البوسنة عامي 1994-1995 وصوّت في الكونغرس لصالح إعطاء تفويض للرئيس جورج بوش الابن بغزو العراق عام 2003، وكان مع عمليات الحلف الأطلسي في ليبيا عام 2011. لكنه اعترض على رفع عديد القوات الأميركية في العراق عام 2007 وفي أفغانستان عام 2011، ونصح أوباما عام 2011 بعدم الموافقة على عملية قتل زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن. كما أدى دوراً محورياً في رسم السياسة الأميركية في العراق، حين كان نائباً للرئيس، بعدما كتب مقالاً مثيراً للجدل في صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2006، تحدث فيه عن إقامة نظام فدرالي، لتخفيف حدة التوتر والعنف.

في سورية، بايدن كان مؤيداً لتسليح مضبوط للمعارضة السورية وكان متشدداً في الحرب على ما يسمى "داعش". كما اتهم تركيا والسعودية والإمارات عام 2014 بتمويل ودعم تنظيم القاعدة والمتطرفين في سورية، قبل أن يعتذر عن هذا التصريح. أما أهم ما سيواجهه بايدن في الحملات الرئاسية المقبلة فهو الدفاع عن مبررات تراجع واشنطن عن تأدية دور قيادي في الشرق الأوسط خلال عهد أوباما.

لكل من ترامب وبايدن اتجاهات لرفض منطق التدخل في حروب خارجية، لكنهما يعبّران عن هذه المواقف من منطلقات سياسية مختلفة. غير أنه فيما يتعلق بقضايا الحرب والسلم، يمكن اعتبار بايدن أكثر تدخلاً في السياسات الخارجية مقارنة مع ترامب وأوباما. ويعتقد بايدن بـ"مركزية دور أميركا في قيادة نظام ليبرالي عالمي عبر دبلوماسية متعددة الأطراف". في المقابل يسعى ترامب إلى إرساء سياسة "عدم التدخّل" مستندة إلى اختصار التفاعل مع البلدان الأخرى على الدبلوماسية والتجارة مع تفادي الحروب، لكن مقاربته هذه سجّلت استثناءً مع تدخّله في الأزمة الفنزويلية.
 وكان بايدن انتقد بشدة خلال الفترة الأخيرة سياسة ترامب في الشرق الأوسط، وقال العام الماضي إن "لدى ترامب على ما يبدو علاقة حب مع الطغاة". كما انتقد تعامل الرئيس مع القيادة السعودية غداة جريمة قتل الإعلامي جمال خاشقجي في سفارة المملكة في إسطنبول التركية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. مع العلم أن احتمال انتخاب بايدن رئيساً، سيكون سيناريو مثيراً للقلق لحكومات تركيا وإسرائيل والسعودية، لا سيما نتيجة تماهي بايدن مع بعض سياسات أوباما واحتمال إعادة واشنطن إلى الاتفاق النووي الإيراني، وتكثيف الدعم لقوات سورية الديمقراطية "قسد" وتعديل دينامية العلاقات الأميركية-السعودية.

ستعتمد المناظرات المرتقبة بين ترامب وبايدن حول السياسة الخارجية إلى حدّ كبير على ما قد يحصل في العام الحالي، لا سيما فيما يتعلق بخطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية المعروفة إعلامياً بـ"صفقة القرن"، ومصير السياسة الأميركية في شمال سورية، وإذا ما كان بمقدور ترامب تأكيد إعلان انتهاء الحرب على "داعش"، أم أن التنظيم سيعود إلى الواجهة في نسخة جديدة، بعد الظهور المرئي لزعيمه أبو بكر البغدادي الشهر الماضي. كما يمكن للشرق الأوسط أيضاً أن يفاجئ الانتخابات الرئاسية الأميركية بتطور جديد يفرض نفسه على هذه المناظرات.

باختصار، هذه المنازلة الآتية بين الرجلين هي معركة بين رؤيتين متناقضتين لأميركا نفسها ولسياستها في الشرق الأوسط، هي معركة سياسية سيكون لها تداعيات كبيرة على المنطقة في حال فاز ترامب أو خسر الانتخابات.

المساهمون