لن نعرف قدرة فن الملصق "البوستر" على التأثير في الحياة العامة إذا لم نعد بالذاكرة إلى زمن ما قبل انتشار وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. وقتها، كان الشارع هو الفضاء العمومي الأبرز لنشر الدعاية، وفيه، يحاول ذلك المحمل الورقي والملوّن عادة أن يمرّر موقفاً أو يقدم دعوة.
هضم هذا الفن كل تقنيات الصورة، من الرسم الزيتي إلى التصوير الفوتوغرافي ومعالجة الصور بالبرمجيات الحديثة. دائماً، كان قابلاً للتوظيف السياسي أو التجاري، مصمّماً بحيث يحافظ على بعده الفني. من النادر أن تترك قضيةٌ ما فن الملصق من دون أن توظفه. إنه أداة "بروباغندا" زهيدة الثمن، ذات فعالية وتأثير، وقابلة لتجسيد الشعارات.
وهكذا، كلما انقدحت روح ثورية في مكان ما من العالم، تحوّل الملصق إلى حامل لأفكارها. وهو ما حدث حين التقى فن الملصق بالقضية الفلسطينية. معرض "فلسطين: 100 عام.. 100 بوستر" - الذي أقيم ضمن أيام "المنتدى الاجتماعي العالمي" - يأتي ليوثق هذا التقاطع. ويطمح إلى تجميع الملصقات التي تناولت القضية الفلسطينية منذ ما يقارب المئة عام، أي منذ "وعد بلفور" (1917).
أحد منظمي المعرض، المخرج السينمائي المصري المقيم في باريس، سمير عبد الله، يقول لـ "العربي الجديد": "يهدف هذا المعرض إلى تجميع آلاف الملصقات التي ترسم خطاً لتطوّرات القضية الفلسطينية".
علاوة على الرسومات، نجد تواريخ مفصليّة على الملصقات، وهي بهذا المعنى تؤرخ في الوقت نفسه لجريمة ولطرائق مقاومتها. عملية التأريخ هذه لا تقتصر على البعد العربي للقضية، إذ يقول عبد الله: "عدد كبير من الملصقات أنجزه فنانون في بلدان لا تلتقي مع القضية الفلسطينية لا في اللغة ولا في الجغرافيا، وإنما فقط في القيم المشتركة".
ويضيف حول وظيفة هذا الفن: "إنه صورة ثابتة لكنها غير صامتة. فن يقول رسالته بصوت عال، وله قدرته السحرية على الاستدعاء ومشاركة المواقف". سمير عبد الله هو أحد مؤسسي مبادرة "فنانون من أجل فلسطين" التي انطلقت في 1 أغسطس/ آب 2014 بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة. وهي فكرة تقوم على تجميع الفنانين من مختلف الجنسيات والاختصاصات لمناصرة فلسطين. من بين المؤسسين: رؤوف كراي، ناصر سومي، ماريا أمارال، جان فيليب إيلاتكوفسمي، رشيد قريشي وغيرهم.
بحسب عبد الله فإن هذه الحركة أتت من "ضرورة توفير فضاء حاضن للفنانين، يخرجهم من حالة العزلة التي يعشيها كل فنان في التزامه تجاه القضية". تدعو "فنانون من أجل فلسطين" أي فنان للمساهمة في أنشطتها سواء بفنه أو بأفكاره أو حتى بحمل شعارها (خريطة فلسطين مرسومة كبقعة دم فوق قميص أسود) خلال أي عرض فني أو ظهور إعلامي. ويؤكد عبد الله أن "هذه الحركة هي استجابة عفوية من الفنانين ضد منظومة فنية عالمية تحرّكها إسرائيل لتلميع صورتها".
ينتقل معرض "فلسطين: 100 عام.. 100 بوستر" من مكان إلى آخر في العالم، ويشير عبد الله "إن الملصقات التي تُعرض في تونس تمثل عيّنة من مجموعة متغيرة في كل معرض". يوضّح أهداف هذه الجولة العالمية، قائلاً: "نريد أن نقوم بعمل مضادّ لما تقوم به اسرائيل. نقول إن فلسطين حاضرة في أي مكان في العالم بصورها وشعاراتها وفنّها، بينما إسرائيل حاضرة بقمعها".
يفسّر عبد الله هذه الفكرة: "تمثل فلسطين المحتلة اليوم مُختبراً لقمع إرادة شعب، وإسرائيل تقوم بتصدير خبراتها في القمع للأنظمة في العالم. لم يعد خافياً أن إسرائيل اليوم رائدة القمع والتحكم في الشعوب". من جهة أخرى، يكشف عبد الله أن المعرض "تكريم لروح الشهيد عز الدين قلق، أول من اشتغل على تجميع ملصقات المقاومة الفلسطينية". ويضيف: "إن رصيد الـ 600 ملصق التي جمعها قلق تمثل نواة مشروعنا".
أثناء العمل اكتشف منظّمو المعرض أن فكرة تجميع الملصقات تتقاسمها معهم عدة مؤسسات وأفراد، لعل أبرزها موقع "أرشيف ملصق فلسطين" على شبكة الإنترنت. كما يكشف أن "المعرض بخاصيته الجوّالة، وسيلة للتعرف إلى أشخاص يمكنهم أن يساهموا في مراكمة الرصيد". يشار إلى أن معظم المجموعة المعروضة في تونس قام بتجميعها، بصفة شخصية، المصمّم التونسي رؤوف كراي.
المتابع لواقع فن الملصق اليوم، يجد أن القضية الفلسطينية هي الموضوع الرئيس لهذا الفن على المستوى الكمي. يقول عبد الله: "هذا ما اكتشفناه حين بدأنا مشروعنا بالتزامن مع العدوان على غزة"، وهو يعتقد أن "حملات مقاطعة إسرائيل بالذات هي الموضوع الأكثر تداولاً في السنوات الأخيرة في صناعة الملصق الدعائي أو بوستر القضية".
إلى جانب المعرض، نظّمت حركة "فنانون من أجل فلسطين" خلال المنتدى، مبادرة أخرى، هي مشروع القماشة العملاقة التي تطبع عليها الأيدي بالأحمر، عن ذلك يقول عبد الله: "نحاول أن ننجز أطول قماشة فنية في كل العصور. نذهب بقماشة بحجم 10 × 2 متر، لكل بلد نزوره، ونلصق بعد ذلك كل القطع، حتى يبلغ طولها 700 كيلومتر بطول جدار العزل الإسرائيلي".