المفقود في الغناء العربي... أوهام النقد الموسيقي

19 ابريل 2020
تنشغل الصحف بأسئلة أرشيفية ليست بحثية ونقدية (فرانس برس)
+ الخط -
لا يحتاج من يرصد حركة النقد الموسيقي والغنائي في صحفنا العربية عناء كبيرا ليدرك أن "المفقود" يحظى بالاهتمام الأكبر، وأن الحديث عن "الفرص الضائعة" يأخذ الأولوية في الكتابة والنشر.. وأن سؤالاً يقول: لماذا لم يُلحن، أو لماذا لم يغن، مُقدّم في القبول والحفاوة على سؤال يقول: ماذا لحن أو كيف بنى اللحن؟ أو ما هي القيمة المضافة التي اشتمل عليها اللحن؟ وعلى طريقة "إسراف هنا وتقتير هناك"، جاءت الحفاوة المندوبة بـ"المفقود"، على حساب الاهتمام الواجب بـ"الموجود".

لعل الموسيقار محمد القصبجي هو المثال الصارخ الواضح الذي تستبين به حالة الاختلال في طريقة تناول الصحف ودور النشر للشأن الموسيقي والغنائي، فعبر نصف قرن أو يزيد، نُشرت مئات المقالات والموضوعات الصحافية، التي تبحث في أسباب توقف القصبجي عن تلحين أعمال كبيرة بعد "رق الحبيب" ثم توقفه بصورة شبه كاملة أواخر الأربعينيات عن إنتاج أي ألحان جديدة لأم كلثوم أو غيرها. وقد غلب على هذه الجهود الكبيرة طابع الرأي الشخصي، والترجيح بلا مرجح، والتحليل الذي لا يمكن أن يقطع بقول. بينما لم يحظ منتج القصبجي الفعلي من الألحان بمعشار هذه الجهود التحليلية والموضوعات الصحافية.

تُفضل الصحف الفنية، والأقسام الموسيقية في الجرائد والمجلات، وكذلك أكثر دور النشر، موضوعات ذات عناوين جذابة للقارئ العادي، وعند الحديث عن القصبجي، تتقدم الموضوعات التي تتكلم عن "الموسيقي العاشق" أو "العبقري المظلوم" أو الموسيقار الكبير قبل أن يجلس عواداً خلف أم كلثوم، أو لماذا لم تقدر سيدة الغناء مشاعره وأحاسيسه، مع السؤال الأكبر المستمر صحافياً بلا انقطاع: لماذا توقفت أم كلثوم عن الغناء من ألحانه؟ وهل كان هذا التوقف قرارها، أم أن قريحة "قصب" الموسيقية نضبت وآذن ألقه الموسيقي بالغروب؟ وكل هذا يقدم لجمهور أكثره لا يعرف كثيراً من ألحان القصبجي، وربما يتورط في هذا النوع من زوايا الكتابة من لم يسمع معظم الألحان المتاحة للرجل، ولو مرة واحدة في حياته.. ليس منطقياً أن يزعم أحدهم حبه وتقديره للقصبجي، ثم يهمل ما لحن، انشغالاً بما لم يُلحن.

وأيضاً، يمكن أن نرصد معالم الانشغال بالمفقود، فيما كُتب خلال عقود عن الخلاف بين أم كلثوم وزكريا أحمد، وعن أسباب هذا الخلاف، وحجم مسؤولية أطرافه. وبالطبع، فإن كل هذه الموضوعات لا تخلو من إعلان الحسرات والتعبير عن الأسف للخسارة الكبيرة المتمثلة في توقف التعاون بين أم كلثوم وزكريا لنحو 11 عاما. ماذا لو لم يقع هذا الخلاف أصلا؟ كم لحنا بمستوى "هو صحيح" كان سيبدعه زكريا، وتشدو به الست؟ كيف كان الأمر لو أن هذه الفرصة الضائعة لم تضع أصلا؟ لكن أغلب من يسودون صفحات الصحف والمجلات بهذه الموضوعات يستعصمون بزهد كامل في إنتاج زكريا الضخم، وفي أكثر من 500 لحن مسرحي بديع مبهر معبر. بل أكثرهم -كما الحال مع القصبجي- لم يستمع إلى القائمة الكاملة لألحان زكريا لأم كلثوم، ولو لمرة واحدة.

يمكن أن نقسم "المفقود" الموسيقي والغنائي إلى قسمين أساسين: حقيقي، وافتراضي. الأول يتمثل في أعمال تمت فعلا، وألحان وضعت، وأغنيات أداها مطربون ومطربات، لكن هذه الأعمال لم تصلنا، إما لأنها لم تسجل من الأصل، أو سجلت وفقدت تسجيلاتها، مثل قصيدة "زهر الربيع يرى أم سادة نجب" التي كتبها الشاعر محمد الأسمر، ولحنها زكريا أحمد، وشدت بها أم كلثوم في حفل افتتاح جامعة الدول العربية عام 1945، أو قصيدة "أراك عصي الدمع" التي لحنها زكريا أيضا لأم كلثوم عام 1946، وتجمع المصادر على أنها من مقام السيكاه، لتختلف عن صيغة البياتي القديمة. وأيضا يمكن أن نمثل للمفقود الحقيقي بتلاوات الشيخ محمد رفعت التي بثتها الإذاعة ولم تسجلها، أو تلك التي سجلت وتلفت أسطواناتها، أو ضاعت.

والنوع الثاني، "الافتراضي"، هو ذلك الذي لم ينتج أصلا، وإنما هو مجرد تصورات وأمنيات ورغبات شخصية وأوهام تدور في الأذهان. هذا النوع ينتج أسئلته الخاصة: أين كان يصل إبداع القصبجي لو استمر في التلحين؟ ماذا كنا سنسمع من زكريا لو لم يقع الخلاف بينه وبين أم كلثوم؟ لم تأخر التعاون بين أم كلثوم وعبد الوهاب؟ وماذا لو أن موسيقار الأجيال قدم ألحانه للسيدة قبل 20 عاما من "أنت عمري"؟ هل كانت تتغير ملامح مسيرة عبد الحليم حافظ لو غنى عددا معتبرا من ألحان السنباطي؟ ولو أن فيروز غنت وأطلقت القصائد السنباطية الثلاث، كيف كان يؤثر ذلك على الثلث الأخير من رحلتها الفنية، وعلى علاقتها بالملحنين عموما، وزياد رحباني على وجه الخصوص؟ ماذا لو حققت أم كلثوم أمنية فريد الأطرش بالتلحين لها؟ ما الذي كان ينتجه هذا اللقاء الذي لم يتم؟ وهكذا، تتوالى هذه الأسئلة الافتراضية، لتشغل مساحات واسعة في الصحف والبرامج التليفزيونية ومختلف منصات الإعلام، ولتأخذ محاولات الإجابة عنها كثيرا من الجهد والوقت وكد الأذهان.

لا ريب أن ظاهرة الاهتمام الكبير والدائم بـ"المفقود" الموسيقي والغنائي ما زالت تفتقر إلى الرصد ولفت الانتباه، وأيضا هي بحاجة إلى جهود لتفسيرها وفهم مبرراتها والإحاطة بأسبابها. لكن النظر الأولي لأعراضها، يؤكد أن الاهتمام بالمفقود يرتبط عكسيا بمستوى إدراك الموجود، وأن البحث في الأسئلة الافتراضية يزيد كلما نقصت معرفة الباحث بما عن يمينه وعن يساره من ألحان وغناء وعزف وإنشاد موثق بالتسجيل الصوتي أو المرئي.

يدخل في باب الاهتمام الزائد بـ"المفقود" ذلك الجهد الكبير الذي يبذل لبحث سياقات ميلاد عمل موسيقي أو غنائي ما، والمبالغة في تتبع خلفياته، ومن الأمثلة الصارخة ما تمتلئ به الصحف عن أشهر أغنيات عيد الأم "ست الحبايب"، أو ظروف أول تعاون بين أم كلثوم وبليغ حمدي "حب إيه"، أو عن أسباب غناء عبد الوهاب "قالوا لي هان الود عليك"؛ حيث نجد أن الحديث عن سياق العمل أكبر وأوسع من الحديث عن العمل نفسه.

من المهم هنا أن نتذكر أغنية "أنت عمري"، فإن لم يكن كل ما كتب عنها، فعلى الأقل 98% منه يتناول الحدث المهم بالتقاء صوت أم كلثوم مع ألحان محمد عبد الوهاب، واستماع الجماهير العربية إلى عمل يشترك فيه قطبا الغناء الأعظمان، ليجد القارئ طوفانا من المقالات والموضوعات الصحافية المتكررة عبر العقود، تتحدث عن ظروف ميلاد الأغنية، من دون قراءتها وتحليلها.

ونقع على أسئلة من قبيل: هل تدخل جمال عبد الناصر بين المطربة والملحن؟ ودور عازف الكمان أحمد الحفناوي، وصولا إلى كواليس ليلة الحفل، وتعطل المرور في القاهرة، وإلغاء إذاعة دمشق نشرتها، وفرار عبد الوهاب من المسرح لأنه لم يحتمل الضغط العصبي. أما التحليل الهادئ الموضوعي الذي يستبين القارئ به القيمة الحقيقية للأغنية، ومدى ما أضافته إلى مسيرة أم كلثوم أو عبد الوهاب، فلا يكاد يظفر به أحد إلا بعد جهد ولأي.

تفتقد معظم الموضوعات الموسيقية والغنائية في صحفنا إذن إلى عملية نقدية متوازنة، يكون حديث السياق فيها بمقدار ما يلزم لفهم العمل الفني، وإلا انقلب حديثا في غير الفن.. وشغل القارئ بحكايات قد تكون صحيحة وقد تكون مسلية، لكنها تظل موضوعات واهية العلاقة بأي محاولة للتثقيف الموسيقي، أو الإسهام في خلق وعي فني، بعدما أمسى "المفقود الفني" مفهوما مركزيا تدور حوله الأقلام العربية.

المساهمون