المغرب وعودة "قوارب الموت"

26 سبتمبر 2018

مغاربة في سبتة ينتظرون ركوب القوارب إلى أوروبا(11/4/2018/فرانس برس)

+ الخط -
عادت ظاهرة الهجرة بطرق غير قانونية من المغرب نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط إلى تصدّر العناوين، منذ بداية الصيف المنتهي. وعلى الرغم من أن أمواج هذه الهجرة لم تتوقف طوال السنوات الأخيرة، إلا أنها كانت شبه مقتصرة على المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، ممن اتخذوا من المغرب  والجزائر معبرا لهم نحو أوروبا. الجديد في موجة الهجرة الجديدة أن أبطالها مغاربة، أعادوا إلى الذاكرة مآسي الهجرة في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان الشباب المغربي يغامر في ركوب البحر على متن مراكب صغيرة، أغلبها كان مآله الغرق، لذلك سميت الظاهرة آنذاك إعلاميا "قوارب الموت"، أودت بحياة عدد لا يُعرف من الشباب المغاربة، حتى استحق مضيق جبل طارق لقب أكبر "مقبرة جماعية" تحت الماء.
ويلفت الانتباه في ظاهرة الهجرة الجديدة أنها تتم في واضحة النهار، وينشر أصحابها صورهم، وأحيانا ببث فيديوهات عبر تقنية البث الحي على المواقع الاجتماعية، تظهرهم وهم يركبون مغامراتهم. ومن خلال هذه الفيديوهات، يُلاحظ أن الجيل الجديد من المهاجرين ليسوا فقط من الشباب اليائس الذي كان أغلبه يأتي من مناطق مهمشة في المغرب، ليعبر نحو الضفة الأخرى تحت جنح الظلام، فالمهاجرون الجدد يبدو من مظاهرهم أنهم من فئاتٍ متوسطةٍ من المجتمع. ولم يعد الأمر يقتصر على الفتيان، فقد أظهرت مقاطع فيديوهات منشورة فتياتٍ في مقتبل العمر، وهن يزاحمن الشبان على قوارب صغيرة متهالكة، بل، وفي مشهد مؤثر، ظهرت أسرة بكامل أفرادها وأطفالها الصغار وهم يقبلون على الهجرة.
الملاحظة الأخرى المثيرة للانتباه أن المهاجرين الجدد ليسوا فقط مهاجرين اقتصاديين، دفعتهم ظروفهم الاجتماعية وضيق حال اليد، إلى ركوب البحر، وإنما هم أصحاب خطاب سياسي، 
حرصوا على أن يوصلوه، عبر مقاطع الفيديو، مثل وصية أو خطبة وداع، وهو في عمقه خطاب نقدي، يعبر عن حالة اليأس والاختناق التي دفعت أصحابها إلى الإقدام على مغامرةٍ مخاطرها غير محسوبة.
وفي أحد مقاطع الفيديو التي انتشرت بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، يظهر معتقلون سابقون من نشطاء "حراك الريف"، نسبةً إلى منطقة الريف في أقصى شمال المغرب، التي هزتها تظاهرات شعبية بين خريف 2016 وصيف 2017، احتجاجا على "التهميش". وخرج بعض هؤلاء النشطاء مباشرة من السجن إلى البحر، وهم يردّدون الشعارات السياسية نفسها التي كان "حراك الريف" يرفعها، قبل قمعه، والتي يقول إحداها: "الموت ولا المذلة"، في تلخيصٍ شديدٍ يختزل كل الخطابات السياسية الرنانة.
وأخيرا، ملاحظة لا تقل أهمية عما سبق، وهي أجواء الفرح التي يحاول راكبو موجة الهجرة الجديدة أن يصوروها، وهم يقدمون على مغامرتهم المحفوفة بالمخاطر، حيث تنقل لنا الصور والفيديوهات ملامح مهاجرين فرحين، يردّدون الشعارات، وأحيانا الأهازيج الشعبية، وهتافات لفرقهم الرياضية المفضلة، ويلوّحون بأيديهم كمن يهم بالخروج في نزهة بحرية، أو فقط يطلقون صرخات الفرح بانتصار رمزي على الخوف من المجهول الذي كان يسكنهم عندما كانوا على اليابسة، غير مبالين بالخوف من المجهول الكبير الذي يلقون أنفسهم في لجّته.
لكن مظاهر الهجرة الجديدة ليست كلها رومانسية، خصوصا عندما يقذف البحر بجثث العاثرين من ضحاياها، وهي الصور التي أعادت التذكير بمآسٍ اعتقد مغاربةٌ كثيرون أن أسبابها اختفت من مغرب اليوم. وحسب بيانات للأمم المتحدة، فإن عدد من لقوا حتفهم في أثناء محاولتهم عبور مضيق جبل طارق بلغ 310 أشخاص لفظها البحر، من بين أكثر من 38 ألف مهاجر نجحوا في العبور إلى الضفة الأخرى خلال هذه السنة، أغلبهم مغاربة، مع أن هذه الأعداد تبقى تقريبية، لأن هناك مفقودين عديدين مجهولي المصير، والمهاجرين غير المحصيين.
المفارقة أن موجة الهجرة الجديدة تأتي في سياق سياسي، كان يُعتقد فيه أن المغرب تحول إلى بلدِ مُستقبِلِ للهجرة، بعدما كان مُصدِّرا لها، فقد منحت الرباط منذ عام 2013 عشرات الآلاف من تصاريح الإقامة لمهاجرين من جنوب الصحراء، في مبادرةٍ اعتبرت سابقة في دول الجنوب. ومنذ موجة "الربيع العربي" التي مسَّت المغرب، عرفت السلطة كيف تعبُرها بأقل الخسائر، حتى بات البلد يعدّ من حالات الاستثناء الإيجابية في منطقةٍ تعجّ بالحروب والمآسي والصراعات.
لا يجب التعامل مع عودة مظاهر هجرة الشباب المغربي عبر ما تسمى "قوارب الموت" باعتبارها ظاهرة اجتماعية، أو موضة تعيشها أكثر من منطقة في العالم، وإنما هي مؤشّر على ظواهر سياسية واجتماعية، تجب مواجهتها بسرعة وبشجاعة. وهذه الظواهر هي التي تكشف عنها التقارير الرسمية المغربية عن انتشار جيوب الفقر والتهميش، عبر الخريطة المغربية، وارتفاع مستوى البطالة، خصوصا في صفوف الشباب، وتضخم صفوف الأميين وأشباه الأميين من ملايين الأطفال الذين يضطرون إلى مغادرة صفوف الدراسة مبكرا سنويا، ليجدوا أنفسهم في الشارع. وحسب إحصاءات رسمية، فإن 1.7 مليون شابة وشاب، أعمارهم بين 15 و24 عاما، يوجدون خارج مقاعد الدراسة وبدون عمل. واتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية إلى درجة دفعت ملك البلاد إلى التساؤل ذات خطاب رسمي "أين الثروة"؟ وتراجع دور الوسائط الاجتماعية والسياسية التي تساعد على عملية تخفيف الاحتقان الاجتماعي، بعد تراجع منسوب الثقة بين المجتمع ونخبه السياسية والثقافية والإعلامية.
وقد دفع هذا الوضع صحيفة إلباييس الإسبانية إلى القول إن البطالة والقمع هما السببان 
الرئيسيان اللذان يدفعان الشباب المغاربة نحو الهجرة. وبنت الصحيفة الإسبانية بياناتها على المعطيات التي جمعتها السلطات الإسبانية من نحو أكثر من ستة آلاف مهاجر مغربي، وصلوا هذا العام إلى إسبانيا. أما رئيس الحكومة المغربية السابق، الإسلامي عبد الإله بنكيران، الذي ما زال حزبه يقود الحكومة الحالية، فقال إنه يجب التعامل مع هذه الموجة الجديدة من الهجرة بوصفها نوعا جديدا من الاحتجاج، بعدما قمعت السلطات مظاهرات الاحتجاج على الأرض، قبل أن يخلص إلى أن هذه المظاهر المأساوية تلخص، إلى حد كبير، حالة الفشل الجماعي للمشروع المغربي!
طبعا، هناك من سيقول إن الهجرة ظاهرة عالمية، ومن سمات العصر الحالي الذي يعيش على واقع توترات متلاحقة، وصراعات متسارعة، حتى أصبحت الهجرة ملاذ الضعفاء ممن لا مكان لهم داخل الرهانات الكبيرة التي تحرّك صراعات اليوم، لكن هذا لا يمنع من طرح أسئلةٍ من قبيل ما الذي يدفع بلدا مثل المغرب إلى المغامرة بالصورة التي بناها عن نفسه، طوال السنوات الماضية، استثناء في المنطقة، سواء في التعامل مع موجات الهجرة القادمة إليه من جنوب الصحراء الكبرى، أو في تدبير مرحلة ما بعد الربيع العربي بأقل الأضرار والخسائر؟ فهل يتعلق الأمر بمجرد حسابات سياسية وجيواستراتيجية مع شركاء المغرب الاقتصاديين في الشمال، تحاول السلطة في الرباط رفع ورقة الهجرة في وجههم للضغط عليهم في مفاوضاتٍ لم تكن في أي يوم متساوية الأطراف، أو متعادلة الموازين؟ أو إن الظاهرة ما هي سوى جبل الثلج الذي يطل برأسه، ويخفي واقعا معيشيا ضنكا يدفع أصحابه إلى رمي أنفسهم في لجّة البحر طعاما للأسماك؟ أم أن الأمر، كما قال رئيس الحكومة المغربية السابق، مؤشّر على ارتفاع منسوب اليأس وضيق الأرض المغربية، حتى بالمتظاهرين والمحتجين المطالبين بأبسط حقوق الحياة الكريمة؟
مجموعة أسئلة تتطلب أجوبة آنية وصريحة، قبل أن يغرق المركب، لأن عدد من يغريهم ركوب أمواج البحر أكبر بكثير من أن تلتقطهم عدسات الكاميرات، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن أغلب الشباب المغربي يرى في نفسه مشروع مهاجر، ينتظر فقط فرصة القفز نحو الضفة الأخرى.. من دون أن نجد من يجيب عن السؤال: كيف وصل الوضع إلى هذه الحالة؟ ومن المسؤول؟
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).