13 نوفمبر 2024
المغرب.. نقاش "السراويل القصيرة"
أعاد لباس سائحات أوروبيات النقاش من جديد داخل المجتمع المغربي، أو على الأقل في أوساط نخبته بين من يصنفون أنفسهم حرّاسا على "قيم" المجتمع الأصيلة، ومن يقدّمون أنفسهم مدافعين عن تحديث المجتمع وتقدّمه. وتعود الحادثة الجديدة التي أثارت هذا الاستقطاب إلى بداية شهر أغسطس/ آب الجاري، عندما اعتقلت السلطات الأمنية المغربية مدوّنا بشبهة التحريض ضد سائحات بلجيكيات حللن بالمغرب في إطار عمل تطوعي في إحدى القرى النائية في الجنوب المغربي، وما أثار المدوّن هو لباس السائحات اللواتي ظهرن بسراويل قصيرة، وهن يقمن بعمل تطوعي لفائدة سكان القرية المغربية. وكان الأمر سيعتبر مجرد حالة معزولة و"شاذة"، ولكن دخول نائب من حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) الذي يقود الحكومة، على الخط، أجّج النقاش، وأضفى عليه بعدا سياسيا، فقد انتقد النائب "الإسلامي" في تدوينته لباس المتطوعات البلجيكيات، وتساءل عما إذا كُنّ يحملن من وراء لباسهن القصير رسالة تدعو إلى "التغريب والتعرّي"! ولم يتأخر رد الفعل من الطرف الآخر، الممثل في جمعيات نسائية، وأحزاب تصف نفسها "يسارية" و"تقدمية"، حولت الموضوع إلى نقاش حاد قسم الرأي العام داخل مواقع التواصل الاجتماعي إلى محافظين وحداثيين.
وكما كل مرة يطرح فيها مثل هذا النقاش، ما يطغى عليه هو البعد السياسي الذي تحاول كل جهة أن توظفه لصالحها. وسرعان ما تحول النقاش إلى نوع من الاستقطاب الحاد بين تيارين: الأول يعتبر نفسه محافظا، إسلاميا يدافع عما يعتبرها "القيم" الأصيلة للمجتمع المغربي، والثاني يعتبر نفسه تقدّميا حداثيا يسعى، حسب زعم أصحابه، إلى تحرير المجتمع المغربي من تصورات وأفكار "ظلامية" عتيقة، تعيق تقدمه وتطوره. وليس الأمر جديدا في المغرب، فقد سبق أن شهدت البلاد استقطاباتٍ حادة في فترات سابقة حول مواضيع معينة قسمت المجتمع إلى فسطاطين، محافظين وحداثيين. حدث ذلك عندما تعلق الأمر بموضوع إدخال تعديلاتٍ على مدونة المرأة بداية الألفية الجديدة. وحدث عندما أثير الجدل حول المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة الذي ما زال معلقا. وتم إحياء هذا الاستقطاب بسبب تخلي الحكومة عن تدريس بعض مواد التعليم باللغة العربية، وإحلال الفرنسية مكانها. ويثار اليوم هذا الاستقطاب بحدة بسبب لباس سائحات أوروبيات متطوعات في المغرب.
والملاحظة أن هذا النقاش ليس جديدا، بل وأصبح عاديا ومتوقعا في كل مرة يصطدم فيها
الطرفان، وهو في العمق ينمّ عن وجود استقطاب حاد وعميق ومتجذّر داخل المجتمع بين تيارين محافظ وحداثي، وقد أبانت التجربة أن الانتصار فيه بين التيارين لا يكون دائما بالضربة القاضية، وإنما بالنقاط التي يراكمها كل تيار لصالحه.
والملاحظة الثانية أن هذا النقاش غالبا ما يتخذ بعدا سياسيا يصبح هو الطاغي عليه، وهو ما يُفقده، في حالاتٍ كثيرة، جوهره وعمقه، خصوصا عندما توظفه جهاتٌ معينةٌ داخل السلطة المركزية للانتصار على طرفٍ ضد الآخر، حسب مصالحها وحساباتها الآنية، فنراها تقف إلى جانب التيار المحافظ، تسانده وتقويه، عندما تريد الوقوف ضد أفكار تقدمية ذات نفس ديمقراطي تحرّري، كما حصل عندما طرح موضوع تخفيف طقوس "البيعة" أو "المساواة في الإرث"، أو عدم تجريم العلاقة الجنسية خارج الزواج، أو عدم تجريم الإفطار العلني في شهر رمضان. وتنصّب السلطة المحافظة نفسها زعيمة التقدّميين والحداثيين، عندما يتعلق الأمر بمهاجمة خصومها "الإسلاميين"، حيث نجدها تسخّر أذرعها الإعلامية "الرسمية"، كما الحال اليوم في موضوع لباس السائحات الأجنبيات، لمهاجمة تيار "الظلاميين" والانتصار لتيار "الحداثيين" والتقدميين" الذين ليسوا في الحقيقة سوى حلفائها الموضوعيين في مهاجمة "الإسلاميين".
ولتقريب الصورة أكثر، حتى يتضح البعد السياسي للنقاش الحالي بين "المحافظين" و"الإسلاميين"، من جهة، وبين "الحداثيين" و"اليساريين"، من جهة أخرى، لا بد من وضعه في سياقه السياسي الحالي، على بعد سنة من الانتخابات المقبلة التي سيشهدها المغرب عام
2021، ولا تريد السلطة أن تشهد عودة قوية للإسلاميين فيها، وتسعى إلى استغلال كل هفوة تصدر عنهم، لإضعافهم قبل حلول موعد الاستحقاق، إلى درجةٍ أصبحت هذه الخطة بيّنة وواضحة للعيان، وغالبا ما تؤتي عكس النتائج المتوخّاة منها. لذلك، ليس كل "الإسلاميين"، وكل "اليساريين" و"التقدميين"، الواعين بخلفيات السلطة وأهدافها ينخرطون في صلب نقاشاتٍ ذات أهداف سياسية انتخابية بالدرجة الأولى. وكما الحال في كل المرّات السابقة، فإن النقاش المثار اليوم، على الرغم من أهميته داخل مجتمع ما زال تفكير جزء كبير من شرائحه يحتاج إلى الانفتاح والتحرّر، لا يجب أن يختزل في السراويل القصيرة لسائحات أجنبيات، وإنما يجب أن يركز على المواضيع الجوهرية التي تعوق حقيقة تقدّم المجتمع وتطوّره، والتي لها علاقة بتحرير إرادة الشعب، واستعادته سيادته، وتحقيق عدالته الاجتماعية، وضمان كرامته وصون حقوقه. أما اختزال النقاش في السراويل القصيرة فهو مثل الزبد الذي يحمله السيل، عندما تفيض به الأودية، وعندما يذهب السيل سيمكث في الأرض ما ينفع الناس، وما ينفع الناس اليوم هو نقاش حقيقي حول مواضيع رئيسية تهم حياتهم ومعيشتهم وطريقة حكمهم وتدبير أمورهم.
والملاحظة أن هذا النقاش ليس جديدا، بل وأصبح عاديا ومتوقعا في كل مرة يصطدم فيها
والملاحظة الثانية أن هذا النقاش غالبا ما يتخذ بعدا سياسيا يصبح هو الطاغي عليه، وهو ما يُفقده، في حالاتٍ كثيرة، جوهره وعمقه، خصوصا عندما توظفه جهاتٌ معينةٌ داخل السلطة المركزية للانتصار على طرفٍ ضد الآخر، حسب مصالحها وحساباتها الآنية، فنراها تقف إلى جانب التيار المحافظ، تسانده وتقويه، عندما تريد الوقوف ضد أفكار تقدمية ذات نفس ديمقراطي تحرّري، كما حصل عندما طرح موضوع تخفيف طقوس "البيعة" أو "المساواة في الإرث"، أو عدم تجريم العلاقة الجنسية خارج الزواج، أو عدم تجريم الإفطار العلني في شهر رمضان. وتنصّب السلطة المحافظة نفسها زعيمة التقدّميين والحداثيين، عندما يتعلق الأمر بمهاجمة خصومها "الإسلاميين"، حيث نجدها تسخّر أذرعها الإعلامية "الرسمية"، كما الحال اليوم في موضوع لباس السائحات الأجنبيات، لمهاجمة تيار "الظلاميين" والانتصار لتيار "الحداثيين" والتقدميين" الذين ليسوا في الحقيقة سوى حلفائها الموضوعيين في مهاجمة "الإسلاميين".
ولتقريب الصورة أكثر، حتى يتضح البعد السياسي للنقاش الحالي بين "المحافظين" و"الإسلاميين"، من جهة، وبين "الحداثيين" و"اليساريين"، من جهة أخرى، لا بد من وضعه في سياقه السياسي الحالي، على بعد سنة من الانتخابات المقبلة التي سيشهدها المغرب عام