01 فبراير 2019
المغرب.. الملك والوزراء
أصدر الملك محمد السادس، على خلفية ما بات يُعرف في المغرب بحراك الريف، تعليماته لوزيري الداخلية والمالية، قصد القيام بالأبحاث والتحرّيات اللازمة بشأن عدم تنفيذ المشاريع التنموية المبرمجة في إطار "الحسيمة.. منارة المتوسط"، وتحديد المسؤوليات، ورفع تقرير بهذا الشأن، في أقرب الآجال.
وعلى الرغم من أن عملية التحقيق، في حد ذاتها، تظل مسطرة للمسؤولية الإدارية، فإنه يمكن تصوّر أن تشكل عناصرها منطلقا للمسؤولية السياسية للوزراء. وهذا ما يطرح من جديد سؤال العلاقة التي تجمع الوزراء بالملك في النظام السياسي والدستوري المغربي.
كان السؤال نفسه قد تبادر مباشرة إلى الأذهان، بعد الإعلان عن القرار الملكي، المتعلق بدعوة رئيس الحكومة إلى فتح تحقيق معمق وشامل لتحديد المسؤوليات، بشأن "قضية" ملعب رياضي في الرباط، كان قد ظهر بشكل فضائحي بمناسبة كأس العالم للأندية التي كان قد احتضنها المغرب قبل ثلاث سنوات، وهو ما كان قد انتهى بإعفاء وزير الشبيبة والرياضة.
الملاحظ مع ذلك أن صيغة الدعوة أخيرا إلى فتح تحقيقٍ تركت، هذه المرة، رئيس الحكومة على الهامش، وتوجهت مباشرة إلى وزيرين ضمن فريقه الحكومي. لكن عموما، عندما نعود إلى التاريخ الدستوري المغربي، نقف على ثوابت العلاقة بين الملك والوزراء وتحوّلاتها.
عمل دستور 1962 على منح سلطة مطلقة للملك في تعيين الحكومة، من دون التقيد بأي التزام سياسي أو برلماني. وبذلك، وضعت الدسترة حداً نهائياً لدور رئيس الوزراء في تشكيل الحكومة. ولم تعمل السياقات السياسية التي تلت ذلك الدستور سوى على تقوية التحكّم الملكي في التجنيد الوزاري بإعلان حالة الاستثناء التي تراجعت بموجبها مكانة الوزراء الذين أصبحوا مجرّد موظفين سامين، ينفذون قرارات الملك، فاقدين أية استقلالية عنه، وهو الوضع الذي لم يعمل دستور 1970 إلا على تقنينه وتعميقه، إذ تزايدت تبعية الحكومة للملك، ولم تعد تظهر إلا فريقا من الموظفين.
وإذا كان دستور 1972 قد احتفظ عموماً بالتوجهات الكبرى نفسها، مع انبثاقٍ محدودٍ لمكانة الحكومة، فقد بقي الملك المسؤول الأول والرئيسي عن السلطة التنفيذية. وفي المقابل، جعل
الانفتاح السياسي الجزئي الذي ستعرفه انطلاقة مرحلة "المسلسل الديمقراطي"، الملك الرّاحل، الحسن الثاني، يتجه نحو سلوك أسلوبٍ مختلفٍ نسبياً في تكوين الحكومة، برز في تخليه عن تحكّمه المطلق في التجنيد الوزاري، وعن الإقصاء المُمنهج للأحزاب السياسية. على أن المتغير الأساسي في علاقة الوزراء بالملك سيتضمنه دستور 1992 الذي سيجعل، لأول مرة، الملك يُعين باقي أعضاء الحكومة باقتراحٍ من الوزير الأول. وسيجعل هذا التعديل الذي اعتبره آنذاك الفقيه الفرنسي، ميشيل روسي، تعديلاً ثورياً، الوزير الأول يوقع بالعطف على ظهير (مرسوم) تعيين الوزراء، وسيلطف قليلاً من التبعية المطلقة للوزراء تجاه الملك، بإقراره لطرف ثان مشارك في عملية اختيارهم، ما سيعزز المكانة القانونية للوزير الأول، وستدعم هذا التعزيز التحوّلات السياسية التي أفضت إلى قيام حكومة التناوب عام 1998.
وإذا كان الخطاب المواكب لدستور 2011 قد قوّى من موقع الوزير الأول الذي أصبح رئيسا للحكومة، وعلى تعزيز المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان، فإن مضمون الدستور لم يذهب بعيدا في اتجاه ضمان استقلالية الوزراء تجاه المؤسسة الملكية. إذ تنص الفقرة الثالثة من الفصل 47 من الدستور على أن للملك بمبادرةٍ منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضواً أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم.
والواقع أن هذه الفقرة التي غالباً ما تمت قراءتها عنصرا "مشوّشا" على مكانة رئيس الحكومة ضمن السلطة التنفيذية من جهة، وعلى المسؤولية السياسية للحكومة، مسؤولية أمام البرلمان
أساساً، أو "كثقب كبير" في البعد البرلماني للوثيقة الدستورية. تجسّد بشكل واضح سمو المؤسسة الملكية ومحوريتها وإشرافها على السلطة التنفيذية، وهو ما يبرز كذلك من خلال ترؤس الملك المجلس الوزاري، وعبر العلاقة التراتبية والرئاسية التي تجمعه بالحكومة.
تتجلى الدلالات المباشرة لهذا التنصيص في جعل الوزراء أفرادا تابعين للملك، إذ يحق له عزل أحدهم، أو مجموعة منهم، بمجرد استشارة رئيس الحكومة (من دون الالتزام بنتائج الاستشارة)، وهذا يعني أن الوزراء مسؤولون أمام الملك، وأن له تقييما فيما يخص عملهم، بصرف النظر عن رأي رئيس الحكومة فيهم، إذ إن "رضا" الأخير عن عملهم ليس ضمانةً لاستمرار تحملهم المسؤولية.
تقوية دستور 2011 الحكومة، وتعزيز استقلاليتها، من حيث التأليف، عبر دسترة المنهجية الديمقراطية، وعدم إمكانية إقالة الملك رئيسها، أو من حيث الصلاحيات، عبر منحها جزءا من الاختصاصات، تمارسها عبر المجلس الحكومي، من دون العودة إلى "مصفاة" المجلس الوزاري. وإذا كان من شأن ذلك كله أن يمنحنا إمكانياتٍ لتلمس الأبعاد "البرلمانية" في الوثيقة الدستورية، والتي تبرز أساساً من خلال علاقة الحكومة بالبرلمان؛ انبثاقها منه، ومسؤوليتها أمامه، ففي المقابل، يظل الدستور المغربي حاملا بقُوة بعدهِ "الرئاسي"، والمتمثل أساسا في علاقة الحكومة بالملك، وهي العلاقة التي تسمح، في النهاية، بجعل مُستقبل أي "وزير" في الحكومة ومصيره بين يدي الملك.
هذا البعد الرئاسي الذي لم تعمل الممارسة سوى على تعزيزه على حساب فرضية التأويل الديمقراطي للدستور، والتي أثبتت، مع الزمن، محدوديتها القصوى.
وعلى الرغم من أن عملية التحقيق، في حد ذاتها، تظل مسطرة للمسؤولية الإدارية، فإنه يمكن تصوّر أن تشكل عناصرها منطلقا للمسؤولية السياسية للوزراء. وهذا ما يطرح من جديد سؤال العلاقة التي تجمع الوزراء بالملك في النظام السياسي والدستوري المغربي.
كان السؤال نفسه قد تبادر مباشرة إلى الأذهان، بعد الإعلان عن القرار الملكي، المتعلق بدعوة رئيس الحكومة إلى فتح تحقيق معمق وشامل لتحديد المسؤوليات، بشأن "قضية" ملعب رياضي في الرباط، كان قد ظهر بشكل فضائحي بمناسبة كأس العالم للأندية التي كان قد احتضنها المغرب قبل ثلاث سنوات، وهو ما كان قد انتهى بإعفاء وزير الشبيبة والرياضة.
الملاحظ مع ذلك أن صيغة الدعوة أخيرا إلى فتح تحقيقٍ تركت، هذه المرة، رئيس الحكومة على الهامش، وتوجهت مباشرة إلى وزيرين ضمن فريقه الحكومي. لكن عموما، عندما نعود إلى التاريخ الدستوري المغربي، نقف على ثوابت العلاقة بين الملك والوزراء وتحوّلاتها.
عمل دستور 1962 على منح سلطة مطلقة للملك في تعيين الحكومة، من دون التقيد بأي التزام سياسي أو برلماني. وبذلك، وضعت الدسترة حداً نهائياً لدور رئيس الوزراء في تشكيل الحكومة. ولم تعمل السياقات السياسية التي تلت ذلك الدستور سوى على تقوية التحكّم الملكي في التجنيد الوزاري بإعلان حالة الاستثناء التي تراجعت بموجبها مكانة الوزراء الذين أصبحوا مجرّد موظفين سامين، ينفذون قرارات الملك، فاقدين أية استقلالية عنه، وهو الوضع الذي لم يعمل دستور 1970 إلا على تقنينه وتعميقه، إذ تزايدت تبعية الحكومة للملك، ولم تعد تظهر إلا فريقا من الموظفين.
وإذا كان دستور 1972 قد احتفظ عموماً بالتوجهات الكبرى نفسها، مع انبثاقٍ محدودٍ لمكانة الحكومة، فقد بقي الملك المسؤول الأول والرئيسي عن السلطة التنفيذية. وفي المقابل، جعل
وإذا كان الخطاب المواكب لدستور 2011 قد قوّى من موقع الوزير الأول الذي أصبح رئيسا للحكومة، وعلى تعزيز المسؤولية السياسية للحكومة أمام البرلمان، فإن مضمون الدستور لم يذهب بعيدا في اتجاه ضمان استقلالية الوزراء تجاه المؤسسة الملكية. إذ تنص الفقرة الثالثة من الفصل 47 من الدستور على أن للملك بمبادرةٍ منه، بعد استشارة رئيس الحكومة، أن يعفي عضواً أو أكثر من أعضاء الحكومة من مهامهم.
والواقع أن هذه الفقرة التي غالباً ما تمت قراءتها عنصرا "مشوّشا" على مكانة رئيس الحكومة ضمن السلطة التنفيذية من جهة، وعلى المسؤولية السياسية للحكومة، مسؤولية أمام البرلمان
تتجلى الدلالات المباشرة لهذا التنصيص في جعل الوزراء أفرادا تابعين للملك، إذ يحق له عزل أحدهم، أو مجموعة منهم، بمجرد استشارة رئيس الحكومة (من دون الالتزام بنتائج الاستشارة)، وهذا يعني أن الوزراء مسؤولون أمام الملك، وأن له تقييما فيما يخص عملهم، بصرف النظر عن رأي رئيس الحكومة فيهم، إذ إن "رضا" الأخير عن عملهم ليس ضمانةً لاستمرار تحملهم المسؤولية.
تقوية دستور 2011 الحكومة، وتعزيز استقلاليتها، من حيث التأليف، عبر دسترة المنهجية الديمقراطية، وعدم إمكانية إقالة الملك رئيسها، أو من حيث الصلاحيات، عبر منحها جزءا من الاختصاصات، تمارسها عبر المجلس الحكومي، من دون العودة إلى "مصفاة" المجلس الوزاري. وإذا كان من شأن ذلك كله أن يمنحنا إمكانياتٍ لتلمس الأبعاد "البرلمانية" في الوثيقة الدستورية، والتي تبرز أساساً من خلال علاقة الحكومة بالبرلمان؛ انبثاقها منه، ومسؤوليتها أمامه، ففي المقابل، يظل الدستور المغربي حاملا بقُوة بعدهِ "الرئاسي"، والمتمثل أساسا في علاقة الحكومة بالملك، وهي العلاقة التي تسمح، في النهاية، بجعل مُستقبل أي "وزير" في الحكومة ومصيره بين يدي الملك.
هذا البعد الرئاسي الذي لم تعمل الممارسة سوى على تعزيزه على حساب فرضية التأويل الديمقراطي للدستور، والتي أثبتت، مع الزمن، محدوديتها القصوى.