المصريون في مواجهة الوباء... ذعر وتخبّط تغذيهما أفعال السلطة

12 ابريل 2020
جذور تاريخية لانعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم في مصر(Getty)
+ الخط -
 
 
للمرة الثانية يرفض أهالي قرية مصرية دفن جثمان ضحية لوباء كورونا. الواقعة الأحدث جرت في قرية شبرا البهو التابعة لمدينة أجا في محافظة الدقهلية بدلتا مصر، بعد أن تجمع الأهالي، أمام مداخل قريتهم، رافضين دخول سيارة إسعاف تحمل جثمان الطبيبة المتوفاة لدفنها  في مقابر القرية، رغم أنها متزوجة من أحد أبناء القرية، لكن الأهالي تجمهروا وطالبوا بدفنها في قرية مجاورة تسمى ميت العامل لكونها مسقط رأسها، خشية نقل العدوى إليهم، فما كان من أهل السيدة المتوفاة إلا أن استعانوا بقوات الأمن التي جاءت وفرقت المتجمهرين بقنابل الغاز، وتم دفن الطبيبة في مشهد مأساوي، سبق أن تكرر في إحدى قرى البحيرة منذ عدة أيام، إذ رفض أهالي قرية بولس بمركز كفر الدوار في محافظة البحيرة دفن جثمان سبعينية توفت بالفيروس الذي نقله إليها ابنها الطبيب والذي يعمل في علاج المصابين بكورونا.

حاول الأهالي منع الدفن واحتشدوا وتجمهروا أمام السيارة التي تحمل الجثمان، رافضين دفن العجوز التي عاشت عمرها بينهم، لكن قوات الأمن المركزي تدخلت وفضت التجمع وسهلت الدفن بالقوة.

 



المشاهد السابقة في الريف المصري لها موروث تاريخي ممتد من الذعر والارتباك الذي عاشته مصر مرات عديدة أقربها لدى انتشار وباء الكوليرا الذي هاجم مصر ثلاث مرات متعاقبة الأولى عام 1883 ثم 1902 و1947، وقبل ذلك الطاعون الذي ضرب مصر مرات عديدة من أكثرها فتكا عام 1791 وكذلك طاعون عام 1800 والذي حدث أثناء وجود الحملة الفرنسية وتوفي حينها ما يقرب من 75 ألف شخص في القاهرة و125 ألفا في المحافظات.

وفي عام 1841، هاجم الطاعون مصر، لكن هذه المرة تم احتواء تأثيره نسبيًا، نتيجة للإجراءات الصحية التي اتخذها والي مصر محمد علي، والتي كان أهمها العزل والحجر الطبي للمصابين وأسرهم والمخالطين لهم.

وعن فترة ذلك الوباء، قال "شلدون واتس" في كتابه "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة والإمبريالية"، إن الطاعون بعدما اكتسح إحدى قرى محافظة الغربية، أرسل محمد علي جنوده إليها، لكن الناجين من السكان استقبلوهم بغير المأمول: "قَتل من نجا منهم الجنود الذي أرسلهم محمد علي، ولعدة ساعات منعوا القوات المعززة حتى من استرداد جثثهم".

 



أظهر شلدون واتس استغرابه مما حدث وقتها، واليوم، بعد ما يزيد على قرنين، نظم بعض المصريين مسيرات خرجت في مدينتي "الإسكندرية" و"بورسعيد"، فجر 24 مارس/آذار الماضي، للهتاف ضد الفيروس، ليكتسي المشهد بالسُخرية، والتي صاحبت بالفعل معظم ردات الفعل تجاه الأمر، لكن تلك المسيرات الأهلية يمكن قراءتها في سياق القلق تجاه الإجراءات والتصرفات الحكومية التي اتسمت بالبطء تارة والتخبط والعشوائية تارة أخرى، وهو ما يعكس حجم القلق والخوف الذي يعانيه المصريون، حتى أن الفيروس صار وصما، مثل ما جرى في قرية السماحية بمحافظة الدقهلية والتي سجلت أول ضحية لفيروس كورونا في مصر، وخرجت وزيرة الصحة وقالت إن الوزارة حصرت أن المتوفاة خالطت 300 أسرة من أهل القرية، وأن الوزارة فرضت عليهم حجرًا صحيًا، لكن بعض أهالي القرية تجمعوا داخل بيت المتوفاة بعد يومين من مداخلة الوزيرة، وأنكروا انتشار الفيروس في قريتهم، في مقطع مصور تم بثه على على مواقع التواصل، وهاجموا الوزيرة بعنف، بسبب ما قد يتعرضون له من "وقف حال، وتضرر أرزاقهم".
 

 
 


علاقة المصريين بالسلطة

كيف تنعكس علاقة المصريين بالسلطة على ردود أفعالهم في وقت الأزمات الصحية المماثلة؟ من أجل الإجابة عن السؤال، يمكن مقارنة ما جرى وقت محمد علي وما يحدث حاليا، فعلى الرغم من مرور أقل من قرنين بقليل، بين طاعون 1841، وكورونا 2020 لكن توجد عوامل متشابهة بين إجراءات السلطة وردود فعل المصريين.

في عهد محمد علي تم اعتماد إجراءات وقائية شديدة القسوة إذ فرض حجرًا صحيًا على أسر مصابي وقتلى الطاعون، وحرق متعلقاتهم الشخصية، أجبر بعضهم على العزل خارج مدنهم وقراهم، وفرض كوردونات على القرى والأحياء المصابة، وأمر جنوده بإطلاق النار فورًا على كل من يحاول الهرب من الكوردون، أو أي أسرة تتكتم على مريض أو متوفى يتبين وفاته بالطاعون.. دفعت تلك الإجراءات بعضهم إلى القيام "سرًا أثناء الليل بحفر حفر لموتاهم بفعل الطاعون في ساحة الدار، أو ترك الجثة في أحد الشوارع البعيدة، بحيث لا يمكن التعرف عليها، وبذلك يجنبون الأسرة العقاب".

يذهب دكتور خالد فهمي، الباحث التاريخي، في كتابه "الجسد والحداثة: الطب والقانون في مصر الحديثة" إلى أن السكان قد فهموا أن تلك الإجراءات لا تعني فقط مصلحتهم، بل تهدف إلى توصل حكامهم "لسيطرة أكثر إحكامًا على المجتمع الذي كانوا يحكمونه"، فقد كان "الإصلاح الطبي الذي شهدته مصر في القرن التاسع مرتبطًا بشكل وثيق بمصالح الدولة. نظرا لأن محمد علي، كان قلقا من قلة عدد السكان مما يؤثر على احتياجاته التي لا تكاد تشبع من الرجال للوفاء بطموحاته العسكرية الهادفة في المقام الأول إلى إقامة سلالة حاكمة له ولذريته من بعده". لقد فهم محمد علي أنه إذا ما أراد إنتاجية أكبر وجيشا قويا، فعليه الاهتمام بصحة المجتمع، وقد أدرك المجتمع ذلك وقاومه.

مما سبق يمكن استنتاج أن خوف المصريين من إجراءات السلطة، يتعلق بإحساسهم بأن السلطة لا تستهدف سلامتهم، التي اعتادوا أنها خارج اهتمام النظام الحاكم من الأساس، وهو ما يتشابه كثيرًا مع الحال في الوقت الحاضر، إذ خرج إعلاميون مؤيدون للنظام للتهوين من أمر خطورة الفيروس وفي مرحلة لاحقة حمل بعضهم الشعب المسؤولية عن أي إخفاق في مواجهته.

 



فقدان الثقة

يمكن فهم أسباب فقدان المصريين للثقة في إجراءات السلطة الحالية عبر تتبع إجراءاتها، إذ اختفى رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي لمدة 19 يوماً كاملة في الوقت الذي ظهر معظم زعماء الدول لطمأنة شعوبهم وبث الأمل، ثم ظهر في لقاء جمعه بعدد من السيدات بمناسبة الاحتفال بعيد المرأة المصرية، واستنكر السيسي ما سماه "حالة التشكيك" في أعداد الوفاة والإصابة بالعدوى، قائلاً: "أجهزة الدولة تعاملت بمنتهى الشفافية والوضوح مع أزمة كورونا منذ اللحظة الأولى للأزمة، وإحنا مش هانخبي حاجة عليكم، لأن الفيروس مش قاصر على مصر، ولكنه منتشر في العالم كله"، متابعاً "التشكيك في كل شيء مستمر منذ نحو 80 عاماً (يقصد الإخوان المسلمين)، وليس فقط خلال هذه الأزمة، وهو ما أدى إلى فقدان ثقة البعض في الإجراءات المتبعة من الدولة".

لكن المصريين فوجئوا وسط حالة النقص الكبير في مستلزمات الوقاية من كورونا، بأن النظام أهدى 10 أطنان من الإمدادات الطبية إلى بكين، ومليوناً ونصف مليون كمامة إلى إيطاليا في مارس/ آذار وتكرر الأمر مرة ثانية، في الوقت الذي يشكو فيه الأطباء على مواقع التواصل بحرقة من عدم توفر المستلزمات اللازمة مثل الكمامات.

وجاءت وزارة التربية والتعليم على رأس الأجهزة الحكومية المتخبطة. فمنذ التعليقات الأولى على أزمة كورونا أصر وزير التربية والتعليم، طارق شوقي، على استمرار الدراسة، رغم خوف الآباء على أبنائهم، ومطالبتهم بالتأجيل، ثم أعطى الوزير الصلاحية للمحافظين بتأجيل الدراسة لسوء الأحوال الجوية، جراء عاصفة ضربت البلاد في بداية شهر مارس، وهو ما تم الإعلان عنه يوم الثلاثاء 10 مارس.. وحتى قبل ثلاثة أيام من إعلان تعليق الدراسة لمدة أسبوعين بجميع مدارس وجامعات مصر بسبب كورونا، في مؤتمر عقدته رئاسة الوزراء في 14 مارس، ظل الرجل مصرًا على استئناف الدراسة، وتوجيه أوامر بإغلاق المدارس التي تظهر فيها إصابات فقط.. هذا التعنت الذي انقلب بعد إصدار رئيس الجمهورية تعليماته، بإغلاق المدارس والجامعات، ما جعل من الوزير مادة للتندر عبر مواقع التواصل.

السجناء أيضًا، البالغ عددهم 114 ألف سجين، من بينهم 30 ألفًا سجينًا احتياطيًا، كما صرح نشأت الديهي، مقدم البرامج التلفزيونية المقرب من الأجهزة الأمنية، كانوا سببًا في انعدام ثقة المواطن في اهتمام السلطة بأرواحهم، فبينما تفرج إيران عن 70 ألف سجين، والبحرين عن مئات السجناء وغيرهما الكثير من دول العالم، لا تزال الدولة تتجاهل مطالبات بالإفراج المشروط للسجناء من قبل المجتمع المدني وأعضاء أحزاب وقامات مرموقة في المجتمع المصري.
 

 
 


وفي ظل عملية التعتيم الحكومية، توفي اللواء أركان حرب خالد شلتوت، رئيس أركان إدارة المياه (إحدى إدارات الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة)، وأعلنت القوات المسلحة في بيان صحافي إن الوفاة ترجع إلى اشتراكه في أعمال مكافحة الفيروس بالبلاد، وتلاه زميله اللواء أركان حرب شفيع عبد الحليم مدير إدارة المشروعات الكبرى في القوات المسلحة، لكن تساؤلات عديدة ثارت عن سبب الإصابة، وهل لها علاقة بمشاريع عمل فيها الراحلان وجرت مخالطة بعض المصابين في الفيروس، وعقب ذلك تم نشر تقارير تسلط الضوء على اجتماع موسع لقيادات الجيش حضره السيسي في 4 مارس، قبل اكتشاف إصابة اللواء شلتوت في 9 مارس. مما خلق إحساساً بأن السلطة أدركت خطورة الأمر فقط عندما اقترب الموت من دوائرها.

توالت بعد ذلك قرارات الدولة من فرض حظر تجوال خلال مؤتمر صحافي لرئاسة الوزراء في 24 مارس، ناشد خلالها رئيس الوزراء المواطنين التزام إجراءات التباعد الاجتماعي. إلا أن مؤتمر وزيرة الصحة هالة زايد الصحافي المنعقد في اليوم التالي جعل المسألة أشبه بمزحة، فقد ظهرت الوزيرة مع وزير الإعلام، داخل قاعة صغيرة مكتظة بالصحافيين، في إشارة واضحة إلى عدم التزام الوزيرة المسؤولة مسؤولية مباشرة عن الظرف الأهم الذي تمر به البلاد بإجراءات الوقاية والتباعد الاجتماعي. ما زاد الأمر سوءًا نشر نقابة الأطباء في 29 مارس نص مخاطبتها وزير الداخلية، لإعطاء تعليماته لرجال الشرطة القائمين على تنفيذ حظر التجوال بتسهيل مهمة الأطقم الطبية أثناء تنقلاتهم خلال الحظر، حيث وردتها شكاوى من أطباء بخصوص عرقلة الشرطة لجهود الأطقم الطبية.

ارتباك رئاسة الوزراء ووزيرة الصحة، والتعنت الذي مارسه وزير التعليم، واختفاء رأس السلطة لأسبوعين من بدء الأزمة، ثم ظهوره في مؤتمر، فاختفاؤه مرة أخرى، وعدم وضوح أمور كثيرة، أدى لارتباك قطاعات عديدة بين العمالة اليومية وغير المنظمة، التي تشكل 40% من العاملين في مصر، ما يعادل 30 مليونًا، حسب أرقام جهاز التعبئة والإحصاء الحكومي، والتي تضررت من الإجراءات الأخيرة، والمتوقع وصولها إلى حافة الجوع، حيث قرر رئيس الوزراء دعمهم بـ500 جنيه شهريًا، ولم يذكر بوضوح الإجراءات التي سيتم بها تنفيذ هذا. بالإضافة إلى إصابة الأطباء بالعدوى مثل ما جرى في معهد الأورام ومعهد القلب وغيرها من المشافي نتيجة أخطاء مسؤولين وحالة من الفوضى التي تسيطر على منظومة الدولة في مواجهة الوباء، كل هذا ساهم بوضوح في تدعيم حالة انعدام الثقة بين الناس تجاه إجراءات النظام الحاكم، خاصة بعد تداول مقاطع لعمال عالقين في صحراء مدينة ضبا السعودية يناشدون السلطات المصرية من أجل الموافقة على عودتهم إلى البلاد، مؤكدين تقطع السبل بهم ونفاد أموالهم، واستنكروا رفض القاهرة استقبالهم رغم توفر ثلاث عبّارات في ميناء ضبا وحجزهم تذاكر لهذا الغرض، وهو ما تكرر مع عشرات من عاملين في شركات أمن خاصة تم إنهاء عقودهم في الدوحة وناشدوا السلطات المصرية توفير وسيلة لرجوعهم إلى مصر، وعندما تدخلت الدوحة واستأجرت طائرة إسبانية بسبب مشاركة القاهرة في الحصار الخليجي المفروض على قطر وعدم السماح لطيران القطرية بالهبوط في مطار القاهرة، امتنعت السلطات المصرية عن استقبال الطائرة قبل أن تقلع، بدعوى توقف حركة الطيران الدولي في مطار القاهرة بسبب الإجراءات المتخذة لمواجهة فيروس كورونا، وتكرر الأمر مع المصريين العالقين في البحرين والذين نشر بعضهم مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي أكدوا فيه أنهم بلا عمل، وأن الأموال التي لديهم قاربت على الانتهاء، مشددين على أنهم وقّعوا على الإقرار الإجباري الذي قدمته السفارة المصرية لهم بالخضوع للحجر الصحي فور عودتهم لمصر، لكن قرار إيقاف الرحلات بين البلدين بسبب المخاوف من انتشار كورونا عطل نقلهم إلى مصر، وفي مقابل هؤلاء العمال تم إجلاء آخرين من الولايات المتحدة الأميركية رغم تفشي الوباء فيها أكثر من البلدان السابقة وفق بيانات منظمة الصحة العالمية.

كل ما سبق يؤكد أن علاقة المصريين بالأنظمة الحاكمة تفتقر إلى الثقة لتأكدهم من عدم الاهتمام بسلامتهم، والتي لا تأتي على رأس أولويات السلطات إلا عندما تحتاج إليهم، وقتها تتغير الأمور وتعلو نغمة الوطنية والتضحية التي دائما ما يدفعون ثمنها بطيب خاطر. 

دلالات