استمع إلى الملخص
- **آليات الفساد والتحايل على الإجراءات الحكومية**: يتم التلاعب بعمليات تسويق القمح عبر بيع بذور مخصصة للزراعة أو حنطة تالفة، بمشاركة موظفين في وزارة التجارة ومختبرات الفحص، مما دفع الحكومة لاتخاذ إجراءات مشددة.
- **الآثار الصحية والاقتصادية للفساد**: طحن القمح غير المطابق للمواصفات يشكل مخاطر صحية كبيرة، والفساد يؤدي إلى خسائر اقتصادية تقدر بـ 6.63 تريليون دينار عراقي، مع جهود أمنية مستمرة لمكافحة الفساد.
حظي العراق بموسم قمح استثنائي ووفرة إنتاج غير مسبوقة، فتحت شهية الفاسدين لنهب الدعم الحكومي عبر توريد حنطة إلى وزارة التجارة إما مهربة أو رديئة وبذور مخصصة للزراعة، من أجل الحصول على سعر زاد عن ضعف الثمن العالمي.
- رفض الفلاح العراقي عدنان الشمري صفقة تقوم على تزويده بكميات من الحنطة المهربة من خارج البلاد والبذور المعفرة (تمت معالجتها لمقاومة الأمراض خلال طور النمو) وغير المعفرة في مقابل تحميلها وبيعها إلى وزارة التجارة التي تشتري القمح المحلي من المزارعين بسعر مجزٍ من أجل دعمهم.
جاء العرض في توقيت صعب على الشمري، إذ تعرض إنتاج الموسم الحالي لأمطار غزيرة أتلفت كميات كبيرة، بسبب الرطوبة التي أصابته بالآفات الحشرية بالإضافة إلى عدم فعالية المبيدات في مكافحتها، وهو ما تكرر مع جيرانه الذين رفضوا العرض وفضلوا عدم الحديث عن هوية مقدميه خوفا من التبعات الأمنية والقانونية.
لكن آخرين قبلوا، إذ وضعت وزارة التجارة العراقية يدها خلال الموسم الحالي على 2500 طن من الحنطة المعفرة والتالفة أو التي أنتجت بمواسم سابقة أو بذور وزعتها وزارة الزراعة على الفلاحين من أجل زراعتها، أثناء محاولة بيعها للحكومة، بحسب ما يكشفه لـ"العربي الجديد" المتحدث باسم الوزارة محمد حنون، ويصفه النائب في البرلمان أمير المعموري بـ"الفساد في ملف تسويق القمح" والذي يقف وراءه متنفذون لم يسمّهم خشية الاستهداف، كما يقول ويشرح طريقة عملهم بأنهم يستغلون بدء موسم تسويق الحنطة عقب الحصاد للتربح من بيع بذور قمح رديئة وغير معفرة قد تكون مهربة من الخارج، أو كميات من الحنطة التالفة أو المحلية المصبوغة (جرى التلاعب بها لتظهر كأنها من إنتاج الموسم الجديد) إلى الحكومة بالسعر العالي بادعاء أنها منتج محلي يستحق الدعم.
لماذا يتم خداع الجهات الحكومية؟
قبل انطلاق موسم زراعة القمح سنويا، تشتري وزارة الزراعة العراقية بذورا بعضها مستورد وجودته عالية بقيمة تصل مع تكاليف التخزين إلى نحو مليون دينار (764 دولارا أميركيا) للطن الواحد، ثم تعيد بيع الطن للفلاحين بسعر مدعوم يبلغ 350 ألف دينار (267 دولارا)، كما يوضح المعموري، وكذلك بيانات وزارة الزراعة العراقية، التي تؤكد أن دعم سعر البذور المعفرة يصل إلى 70% ويختلف بحسب الرتبة (الدرجة) والجودة.
وتُوزع على المزارعين مقادير متفاوتة كل حسب الكمية المخصصة له ضمن الخطة الزراعية ومساحة أرضه واستعدادات موسم القمح التي تبدأ في شهر أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، وبعد الحصاد تشتري الوزارة المحصول بسعر محدد يتم الإعلان عنه سنويا وبلغ في الموسم الجاري 850 ألف دينار للطن (645 دولارا)، والذي يفوق نظيره العالمي بـ350 ألف دينار كما يقول حيدر الكرعاوي مدير الشركة العامة لتجارة الحبوب (حكومية)، والتابعة لوزارة التجارة، والتي تختص باستيراد الحنطة والأرز لأغراض البطاقة التموينية وتسويق وخزن وتنقية وتعبئة الحبوب.
تشتري الحكومة طن القمح من المزارعين بضعف السعر العالمي
وازدادت المساحات المزروعة بالحنطة هذا العام لتصل إلى 12 مليون دونم بسبب وفرة الأمطار ونظم الري الحديثة التي عممتها الحكومة بعد ما استصلحت أربعة ملايين دونم من الأراضي الصحراوية، باستخدام المرشات والمياه الجوفية.
وبلغ حجم الإنتاج 7 ملايين و800 ألف طن، وهو رقم قياسي بحسب بيانات وزارة التجارة وما بدا من سعادة على وجه الفلاح عذاب حسن لدى إجابته عن سؤال حول حجم إنتاجه في الموسم الحالي، والذي وصفه بـ"الواعد" نتيجة وفرة الأمطار، ما سهل مهمته في زراعة أرضه التي تبلغ مساحتها ألفي دونم في ضاحية اليوسفية جنوبي بغداد، وضاعف إنتاجها ليصل إلى 1200 طن للدونم، بينما تراوح في السابق بين 550 و650 طن للدونم.
وترجح وزارة التجارة أن تبلغ كلف شراء الحنطة من الفلاحين نحو ستة ترليونات و630 مليار دينار عراقي، أي ما يزيد عن 5 مليارات دولار.
كيف يقع الفساد؟
يرصد النائب المعموري ضمن دوره الرقابي كيف تقع عمليات الفساد والتربح من تسويق بذور القمح التي وزعت لأغراض فلاحية بهدف كسب أموال من فرق الأسعار، عبر معلومات وأدلة اطلع عليها من خلال موظفين في وزارة التجارة تحفظ على ذكر أسمائهم خشية استهدافهم على يد المتورطين في بيع وشراء القمح الموزع على الفلاحين خريف كل عام والذين يعيدون إخراجه من مخازنهم في شهري مارس/آذار وإبريل/نيسان، أي قبل انطلاق موسم الحصاد بفترة قليلة، بدعوى أنه من الإنتاج المحلي لإعادة بيعه إلى وزارة التجارة بالسعر الرسمي، وهو ما استدعى صدور كتاب عن مدير مكتب رئيس الوزراء علي رزوقي اللامي، برقم 3018 /2413743، وموجه في 29 إبريل 2024 إلى وزارة الزراعة، بـ"الالتزام بتعفير كامل لبذور الحنطة المسلمة إلى الفلاحين والمزارعين وبنسبة 100% وعدم الاكتفاء بتعفير الأكياس من الخارج، وعدم تسليم بذور الحنطة التي ما زالت مخزونة من الأعوام السابقة بما يعرف بـ "الحايلة" أي الفاسدة كون أغلب هذه الحنطة مصابة بالحشرات المخزنية، إلى المزارعين والفلاحين من أجل استخدامها في الموسم الزراعي المقبل".
وصدر الكتاب بتوجيه من رئيس مجلس الوزراء بعد اكتشاف حالات عدم تعفير للبذور (تعقيمها) بهدف إعادة تسويقها على أنها من إنتاج العام الحالي وكذلك تسليم الفلاحين بذور غير صالحة بسبب إصابتها بالحشرات، وفق البرلماني المعموري.
وبسبب وقوع عمليات التلاعب والفساد تلك، وجه مدير الشركة العامة لتجارة الحبوب تحذيرا إلى فروع الشركة ومراكز التسويق التابعة لها بالانتباه إلى محاولات تسويق الحنطة المستوردة أو المحلية المصبوغة أو المعفرة للحصول على الدعم خلافا للقانون والتعليمات، وهو ما يعد جريمة استيلاء على المال العام، وفق ما جاء في كتابه عدد 6999 الصادر في 25 مارس/آذار المنصرم، لذلك يتم حجز أي كمية مسوقة منها وإحالة من يقوم بتسويقها إلى المحاكم وإلغاء خطة المسوق وعدم اعتماده في جميع مراكز الاستلام، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تُصادر الكمية وتتخذ الإجراءات القانونية بحقه بعد استحصال قرار من الجهات القضائية.
تحايل على الإجراءات الحكومية
ينفي المتحدث باسم وزارة التجارة تورط جهات حكومية في المتاجرة بالحنطة، خاصة أن وزارة التجارة تعيد البذور وكذلك الحنطة المتبقية من مواسم سابقة إلى وزارة الزراعة، متهما المزارعين، لكنه يصرّ على "أن التلاعب لم يحدث على نطاق واسع بل اقتصر على فلاحين عددهم محدود لم يتجاوز خمس حالات، ما دفع الحكومة العراقية لعقد اجتماع برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وجميع الجهات المعنية بملف تسويق القمح والتي تضم وزارتي الزراعة والتجارة والأجهزة الأمنية لإصدار قرارات تعالج الملف".
ومن أبرز الإجراءات التي أعلن عنها مجلس الوزراء، إخضاع الشاحنات المحملة بالقمح والمخصصة لـ"المناقلة"، (توصيل القمح من المحافظات التي امتلأت مخازنها إلى أخرى لديها إمكانيات للتخزين)، إلى رقابة مشددة عبر منع خروجها نحو الصوامع ما لم تقدم أوراقا ثبوتية تؤكد أن الحمولة من الإنتاج المحلي مع فحوص تثبت سلامتها وصلاحيتها مختومة من المراكز التسويقية، للحد من محاولات التربح من تسويق القمح بصورة غير شرعية، وقطع الطريق أمام تهريب حنطة دول الجوار وتسويقها داخل العراق، كما يوضح حنون لافتا إلى أن "جميع الكميات التي تصل إلى الصوامع التابعة لوزارة التجارة تشتريها الحكومة وتتم عملية استلام محصول القمح وفق إجراءات فنية وإدارية يتم أثناءها فحص الكميات التي يرغب الفلاحون بتسويقها مخبريا للتأكد من صلاحيتها وجودتها من خلال الحصول على عينات متفرقة وفي حال ظهر أنها معفرة أو ليست من إنتاج الموسم الجديد أو أنها بذور مخصصة للزراعة يتم استبعادها".
وبالرغم من ذلك يجري الالتفاف على الإجراءات الحكومية كما يكشف النائب المعموري إذ "تم رصد حالات تسليم كميات من القمح لصوامع أهلية تستخدم في حال امتلاء الصوامع الحكومية، كإجراء مؤقت إلى حين نقل القمح إما لمحافظة أخرى أو تحويله للمطاحن مباشرة خوفا من تلفه بعد تعرضه للأمطار، ما يفتح بابا واسعا للتحايل عبر الزجّ بكميات حنطة مُهربة على أنها من إنتاج الموسم المحتمل تلفه ويتم تحويله إلى دقيق، وهذه الكميات الإضافية خارج الخطة الزراعية التي حددت الكميات المستلمة بكل محافظة، لذلك يجري التحقيق بشأنها وتشير النتائج الأولية إلى وقوع محاولات لتسويقها على أنها من إنتاج العام الحالي، رغم أنها من فائض إنتاج الموسم الماضي أو قمح مستورد أو بذور معفرة".
ما سبق تؤكده وثيقة برقم 3018 /2413671 صادرة عن مدير مكتب رئيس الوزراء علي رزوقي اللامي وموجهة إلى وزارة الزراعة أمر فيها بـ "وقف التعاقد مع المعامل الأهلية، وتقليل كمية البذور المستلمة بما يتلاءم مع الخطة الزراعية وحسب التوصية للدونم الواحد"، ما يعني أن ما عدا تلك الكميات يدخل ضمن محاولات تسويق غير قانونية.
استبدال القمح في المطاحن
"يمتنع أصحاب مطاحن خاصة عن استخدام القمح الذي تزودهم الحكومة به من أجل تجهيزه للمواطنين والسوق المحلية، وعوضا عن ذلك يعيدون شحنه إلى صوامع وزارة التجارة على أنه من إنتاج الموسم الحالي وهكذا يتربحون من سعره الكبير بشكل غير شرعي" وفق إفادة المعموري، وعيسى عبد الله، وهو اسم مستعار لموظف يعمل في إحدى المطاحن الخاصة طلب عدم ذكر اسمه تجنبا لاستهدافه، واصفا ما يجري بأنه "استبدال القمح الحكومي المخصص لتحويله إلى دقيق وتوزيعه ضمن الحصة التموينية، بحنطة من نوعيات رديئة، ليتم بيعه للحكومة بالسعر الرسمي بالتواطؤ بين أصحاب المطاحن ومتورطين من النافذين".
يجري صبغ بذور القمح حتى تظهر كأنها من إنتاج الموسم الجديد
وتشن لجان وزارة التجارة حملات مستمرة لرصد نوعيات القمح المستبدلة والرديئة، وتمكنت إحداها من مداهمة المطحن الذي يعمل فيه عبدالله واكتشفت 200 طن قمح مخالف، ليتم إحالة صاحب المطحن إلى التحقيق للمرة الأولى بعد أعوام من التلاعب بينما يستمر غيره في نهب قوت العراقيين.
إحباط محاولات تسويق القمح المهرب والرديء
أحبطت فرق الأمن الوطني عمليات تسويق لكميات من القمح المهرب من دول الجوار إلى العراق، بحسب ما يبينه لـ"العربي الجديد" مصدر في جهاز الأمن الوطني العراقي، طلب عدم الإفصاح عن اسمه كونه غير مخول التصريح لوسائل الإعلام، كاشفا أن "الجهاز ضبط في أكثر من عملية كميات قمح جرى إدخالها إلى العراق وإعادة تحميلها بدعوى أنها من الإنتاج المحلي وبعضها تالف أو من البذور، وتورط في هذا موظفون يعملون في مختبرات تتولى فحص القمح، إذ تلقوا رشى لإصدار تقارير تفيد بأنها صالحة وسليمة ومن الإنتاج المحلي".
وضبطت الأجهزة الأمنية 14 شاحنة في محافظات كركوك شمال البلاد، وصلاح الدين وكربلاء وواسط وسط العراق، محملة بـ 400 طن من القمح جرت محاولة تسويقها بشكل غير قانوني، فضلا عن ضبط أكثر من 340 طنا من الحنطة المعفرة وغير الصالحة للاستهلاك في محافظة ديالى شرق بغداد، و800 طن أخرى غير مطابقة للمواصفات جرت محاولة تسويقها لصوامع المحافظة، كما ضُبطت 1800 طن من الحنطة التالفة في محافظة الأنبار غربا، جرت محاولة تسويقها لصوامع مدينة الرمادي، وفق بيانات حصل عليها "العربي الجديد" من المصدر الأمني.
ويترتب على طحن القمح المعفر أو المصبوغ وغير المطابق للمواصفات، أو المحتوي على مبيدات، مخاطر صحية كبيرة، بحسب توضيح الطبيب بلال نعمان، المختص بالطب الباطني، كونه يحتوي على الفوسفات العضوية (إسترات حمض الفوسفوريك) والذي يسبب سميّة عصبية تؤدي لألم في الأطراف والوخز وقد يتطور إلى شلل حركي، أما المبيدات الحشرية ومن بينها مالاثيون وباراثيون وفينثيون ودورسبان وديازينون وكلوربيريفوس، والسارين وهو أحد غازات الأعصاب الصناعية المستخدمة في قتل الحشرات، تترك أعراضا متنوعة على البشر في حال تناول مواد ملوثة بها كالقمح، ومنها حدوث تراجع معدل نبضات القلب وعدم انتظامها وانخفاض حاد بضغط الدم، واختلاجات يضيق معها التنفس، وتدميع في العين، وتشوش الرؤية، وانسكاب اللعاب والتعرق الشديد والسعال والقيء وتكرار التبرز والتبول بأوقات متقاربة جدا.