18 نوفمبر 2024
المصالحة الاقتصادية والفساد في تونس
يبدو أن المشهد السياسي التونسي مرشحٌ لمزيد من الاحتقان، على خلاف التصريحات التي ردّدها أخيرا مسؤولون حكوميون، مستندين إلى بيانات للمعهد الوطني للإحصاء، تفيد عموما بتحسّن مؤشرات النمو، وهي التي بلغت نقطتين خلال الثلاثية الأخيرة، لم يتم تسجيلها منذ أكثر من ست سنوات. وهذا مؤشر ضعيف، غير أنه تم الاحتفال به على شاكلة فوز الفريق الحكومي الحالي في أحد أمجاد البطولات الرياضية. وذلك يكشف فعلا عن قتامة الوضع وكارثيته، فتغدو تلك المؤشرات، على ضعفها معجزات وخوارق، ومع ذلك لم تحجب حجم الخراب الذي ينهش المشهد السياسي الحالي.
وراء شجرة النجاحات الاقتصادية والتوافق، تختفي غابة شاسعة من الفساد والدمار الذي خرّب الحقل السياسي: قيما وثقافة وفاعلين، ويبدو أن هذه الأفاعي استولت على الحقل السياسي، وبدأت تفترس كل ما حولها: ساسة، زعامات، إعلام، مؤسسات الدولة بما فيها الأكثر سياديةً وحساسية: أمن، قضاء، إدارة وإعلام، حتى تحوّل بعضها إلى أذرع لها. هذا بعض ما جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر قبل أيام بعنوان "انتقال محبوس.. الفساد والجهوية".
لا أحد ينكر أن الاستثناء التونسي كان، في جزء كبير منه، مديناً للتوافق السياسي الذي رسّخه الشيخان، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. هذه نصف الحقيقة، غير أن ما لا يقال أيضا هو النصف الثاني منها، وهو أن هذا التوافق الذي كان أقرب إلى "تفاهمات رجلة" تجنب الأذى المتبادل لتهدئة الأجواء. كان هذا التوافق باهظا. اضطرت حركة النهضة، لتنجو بنفسها، وتنجي البلاد معها، إلى التحالف مع خصمها اللدود. ولكن، يبدو أن الشروط المعلنة أو الضمنية التي فرضت عليها في مجرى تطور الأحداث هو التطبيع مع المنظومة القديمة أو على الأقل القبول بها.
تورّطت "النهضة"، وهي ترى أن حزب نداء تونس يعود تدريجيا إلى ارتداء جلد الحية الذي توهمنا أنها تخلت عنه. لم يعد اتهام الحزب بأنه رسكلة لقيادات حزب التجمع الدستوري الديموقراطي ادّعاءً باطلا، فلقد عزّز، في الأشهر الأخيرة، قياداته من الصفوف الأمامية بالكوادر العليا من حزب التجمع المنحل. ولن نذهب إلى المتاحف، حتى نتصفح صفحاتٍ من تاريخ هذا الحزب، بل علينا أن نكتفي بقراءة سير القيادات التي التحقت به في الأشهر الأخيرة، فكل هؤلاء كانوا من قيادات الحزب القديم، وبعضهم تعلقت بهم قضايا ذات صلة بالفساد تحديدا.
حين أراد صنّاع القرار السياسي صناعة شيء من المشروعية لحكومة يوسف الشاهد، نصّوا حرفيا في وثيقة قرطاج على أن تكون مكافحة الفساد إحدى أولوياتها، ولم يتم مطلقا الإشارة إلى المصالحة الاقتصادية، بل تفيد تصريحات عديدة لشخصيات وقادة سياسيين، حضروا المشاورات السياسية التي رافقت تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بأنه تم استبعاد هذه المسألة باعتبارها خلافية، قد تهدّد حكومة الوحدة الوطنية بالانفجار. غير أن الأمور جرت على نحو آخر، وتعطلت المبادرات الوطنية التي تريد مكافحة الفساد، بقطع النظر عن التصريحات التي يؤكد فيها رؤساء الحكومات المتتالية عزمهم على ذلك. هذا الإخفاق أو التعثر لا يعود، في اعتقادنا، إلى النيات، ولكن إلى قوة أخطبوط الفساد التي هي أشد مما كنا نعتقد، بل أطبق الفساد فكيه على الدولة برمتها، ولم يعد من السهل محاربته.
أخطر ما يمكن أن ينجرّ عن اتساع دائرة الفساد وتحوله إلى ظاهرة بنيوية، تصوغ المشهد السياسي برمته، أن التنافس السياسي والاقتصادي غدا أكثر من أي وقت مضى، غير نزيه، وهو "متعفّن" غير صحي وموبوء، وهو ناجم عن نزاع عميق وحاد، غرضه الاستيلاء على مفاتيح الإدارة التي ما زالت تمثل الباب الأوسع لدخول التمويلات، وهي التي توزع إلى حد الآن الريع الإداري، من خلال سوق المشاريع العمومية والتمويلات البنكية. كما ورد في تقرير مجموعة النزاعات الدولية.
هناك احتمالان لتغول الفساد واختراقه جميع مفاصل الدولة، إما أن تكون الدولة عاجزةً عن السيطرة على هذا القمقم الذي تجنبت التصدّي له، بل قد تكون غذّته وتسمنه، فعاد مصرّا على التهامها. أما الاحتمال الثاني، فإنه يعود إلى أن الدولة، والحكومة خصوصا، متواطئة معه، وقد تم اختراق لوبيات فاسدة أجهزة الدولة، دعمت أحزاباً وشخصياتٍ، من خلال ضخ المال الفاسد في الانتخابات، حتى استطاعت تشكيل الطبقة السياسية الحالية (الحاكمة والمعارضة) وبشكل منهجي. تم تعميم الفساد و"دمقرطته"، كما يقول تقرير مجموعة الأزمات الدولية المشار إليه. صرّح أحد الوزراء القادمين من ذرية الحزب الشيوعي التونسي "ما من مواطن تونسي إلا وهو فاسد"، في معرض دفاعه عن قانون المصالحة الاقتصادية (العفو عن الفاسدين ماليا) الذي يطوي صفحة الماضي في قضايا الفساد، من دون معرفة الحقيقة أو المحاسبة. هناك أكثر من مؤشر على أن تلك الأوساط الفاسدة عينت وزراء ومسؤولين محليين وجهويين، بل قيادات أمنية وسياسية ومسؤولين كبارا في المؤسسات العمومية، فهم رجالاتها وأذرعها.
المبادرة التشريعية التي أعادت طرحها قبل أيام مؤسسة رئاسة الجمهورية، تحت عنوان المصالحة الاقتصادية، المشار إليه سابقا، والتي كانت قد اضطرت إلى سحبها سنة 2015، تحت ضغط الشارع، جاءت في الوقت الخطأ، فهي رسالة بليغة، تفيد بأن الدولة غير جادّة في محاربة الفساد، بل إن هذا الموضوع لا يعنيها أصلا إلا من جهة إصدار عفو عن فاسدي النظام القديم. عفا الله عما سلف، حتى ولو تم إتلاف السياسة والاقتصاد معا. المعارضة التي يلقاها مشروع قانون المصالحة الاقتصادية حاليا من بعض الأحزاب السياسية، ناهيك عن التعبئة المدنية التي تقوم بها عدة جمعيات، ستكون على المحكّ في الأسابيع المقبلة للدفاع عن نبل السياسة أصلا. ولا يتعلق الأمر بمبالغ مالية عمومية، آلت إلى غير مستحقيها، بطرق غير مشروعة، بل بوضع حد للاستهتار بالقانون وتطويعه لفائدة حفنةٍ، تعتقد أنها بالمال تستطيع أن تفعل ما تشاء، بما فيها شراء صكوك الغفران.
وراء شجرة النجاحات الاقتصادية والتوافق، تختفي غابة شاسعة من الفساد والدمار الذي خرّب الحقل السياسي: قيما وثقافة وفاعلين، ويبدو أن هذه الأفاعي استولت على الحقل السياسي، وبدأت تفترس كل ما حولها: ساسة، زعامات، إعلام، مؤسسات الدولة بما فيها الأكثر سياديةً وحساسية: أمن، قضاء، إدارة وإعلام، حتى تحوّل بعضها إلى أذرع لها. هذا بعض ما جاء في تقرير مجموعة الأزمات الدولية الصادر قبل أيام بعنوان "انتقال محبوس.. الفساد والجهوية".
لا أحد ينكر أن الاستثناء التونسي كان، في جزء كبير منه، مديناً للتوافق السياسي الذي رسّخه الشيخان، الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي. هذه نصف الحقيقة، غير أن ما لا يقال أيضا هو النصف الثاني منها، وهو أن هذا التوافق الذي كان أقرب إلى "تفاهمات رجلة" تجنب الأذى المتبادل لتهدئة الأجواء. كان هذا التوافق باهظا. اضطرت حركة النهضة، لتنجو بنفسها، وتنجي البلاد معها، إلى التحالف مع خصمها اللدود. ولكن، يبدو أن الشروط المعلنة أو الضمنية التي فرضت عليها في مجرى تطور الأحداث هو التطبيع مع المنظومة القديمة أو على الأقل القبول بها.
تورّطت "النهضة"، وهي ترى أن حزب نداء تونس يعود تدريجيا إلى ارتداء جلد الحية الذي توهمنا أنها تخلت عنه. لم يعد اتهام الحزب بأنه رسكلة لقيادات حزب التجمع الدستوري الديموقراطي ادّعاءً باطلا، فلقد عزّز، في الأشهر الأخيرة، قياداته من الصفوف الأمامية بالكوادر العليا من حزب التجمع المنحل. ولن نذهب إلى المتاحف، حتى نتصفح صفحاتٍ من تاريخ هذا الحزب، بل علينا أن نكتفي بقراءة سير القيادات التي التحقت به في الأشهر الأخيرة، فكل هؤلاء كانوا من قيادات الحزب القديم، وبعضهم تعلقت بهم قضايا ذات صلة بالفساد تحديدا.
حين أراد صنّاع القرار السياسي صناعة شيء من المشروعية لحكومة يوسف الشاهد، نصّوا حرفيا في وثيقة قرطاج على أن تكون مكافحة الفساد إحدى أولوياتها، ولم يتم مطلقا الإشارة إلى المصالحة الاقتصادية، بل تفيد تصريحات عديدة لشخصيات وقادة سياسيين، حضروا المشاورات السياسية التي رافقت تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، بأنه تم استبعاد هذه المسألة باعتبارها خلافية، قد تهدّد حكومة الوحدة الوطنية بالانفجار. غير أن الأمور جرت على نحو آخر، وتعطلت المبادرات الوطنية التي تريد مكافحة الفساد، بقطع النظر عن التصريحات التي يؤكد فيها رؤساء الحكومات المتتالية عزمهم على ذلك. هذا الإخفاق أو التعثر لا يعود، في اعتقادنا، إلى النيات، ولكن إلى قوة أخطبوط الفساد التي هي أشد مما كنا نعتقد، بل أطبق الفساد فكيه على الدولة برمتها، ولم يعد من السهل محاربته.
أخطر ما يمكن أن ينجرّ عن اتساع دائرة الفساد وتحوله إلى ظاهرة بنيوية، تصوغ المشهد السياسي برمته، أن التنافس السياسي والاقتصادي غدا أكثر من أي وقت مضى، غير نزيه، وهو "متعفّن" غير صحي وموبوء، وهو ناجم عن نزاع عميق وحاد، غرضه الاستيلاء على مفاتيح الإدارة التي ما زالت تمثل الباب الأوسع لدخول التمويلات، وهي التي توزع إلى حد الآن الريع الإداري، من خلال سوق المشاريع العمومية والتمويلات البنكية. كما ورد في تقرير مجموعة النزاعات الدولية.
هناك احتمالان لتغول الفساد واختراقه جميع مفاصل الدولة، إما أن تكون الدولة عاجزةً عن السيطرة على هذا القمقم الذي تجنبت التصدّي له، بل قد تكون غذّته وتسمنه، فعاد مصرّا على التهامها. أما الاحتمال الثاني، فإنه يعود إلى أن الدولة، والحكومة خصوصا، متواطئة معه، وقد تم اختراق لوبيات فاسدة أجهزة الدولة، دعمت أحزاباً وشخصياتٍ، من خلال ضخ المال الفاسد في الانتخابات، حتى استطاعت تشكيل الطبقة السياسية الحالية (الحاكمة والمعارضة) وبشكل منهجي. تم تعميم الفساد و"دمقرطته"، كما يقول تقرير مجموعة الأزمات الدولية المشار إليه. صرّح أحد الوزراء القادمين من ذرية الحزب الشيوعي التونسي "ما من مواطن تونسي إلا وهو فاسد"، في معرض دفاعه عن قانون المصالحة الاقتصادية (العفو عن الفاسدين ماليا) الذي يطوي صفحة الماضي في قضايا الفساد، من دون معرفة الحقيقة أو المحاسبة. هناك أكثر من مؤشر على أن تلك الأوساط الفاسدة عينت وزراء ومسؤولين محليين وجهويين، بل قيادات أمنية وسياسية ومسؤولين كبارا في المؤسسات العمومية، فهم رجالاتها وأذرعها.
المبادرة التشريعية التي أعادت طرحها قبل أيام مؤسسة رئاسة الجمهورية، تحت عنوان المصالحة الاقتصادية، المشار إليه سابقا، والتي كانت قد اضطرت إلى سحبها سنة 2015، تحت ضغط الشارع، جاءت في الوقت الخطأ، فهي رسالة بليغة، تفيد بأن الدولة غير جادّة في محاربة الفساد، بل إن هذا الموضوع لا يعنيها أصلا إلا من جهة إصدار عفو عن فاسدي النظام القديم. عفا الله عما سلف، حتى ولو تم إتلاف السياسة والاقتصاد معا. المعارضة التي يلقاها مشروع قانون المصالحة الاقتصادية حاليا من بعض الأحزاب السياسية، ناهيك عن التعبئة المدنية التي تقوم بها عدة جمعيات، ستكون على المحكّ في الأسابيع المقبلة للدفاع عن نبل السياسة أصلا. ولا يتعلق الأمر بمبالغ مالية عمومية، آلت إلى غير مستحقيها، بطرق غير مشروعة، بل بوضع حد للاستهتار بالقانون وتطويعه لفائدة حفنةٍ، تعتقد أنها بالمال تستطيع أن تفعل ما تشاء، بما فيها شراء صكوك الغفران.