ولد المسعودي في بغداد عام 896 ميلادي تعلم بها، وكان كثير الأسفار وقد زار بلاد فارس والهند وسيلان وأصقاع بحر قزوين والسودان وجنوب شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام والروم، وانتهى به المطاف إلى فسطاط مصر حيث توفي هناك عام 957 ميلادي.
تعد موسوعته "مروج الذهب" مصدراً تاريخياً وجغرافياً لا عنى عنه لمعرفة أوضاع العالم في ذلك الوقت جمع بها خلاصة معارفه وأخبار رحلاته وسبكها بطريقة وضعته إلى جانب الرحالة والمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوتس.
كان المسعودي واحداً من الرحالة العرب الذين كتبوا عن بلاد الشمال من الترك والخزر والصقالبة وباقي شعوب أوروبا، ولذلك تبدو صورة هذه المنطقة من العالم غير ما أصبحت عليه بعد غزوات التتار التي غيرت شكل الجزء الشمالي من المعمورة.
وهذه الشهادة الحية للمسعودي عن مملكة الخزر وبلاد الروس وثيقة مهمة عن تشكل الأمة الروسية التي كانت حتى ذلك الوقت أي القرن العاشر الميلادي في طورها الجنيني، ولم تتشكل كأمة مكتملة بعد.
وهذا الموضوع شغل الكثير من علماء التاريخ الروس الذين حاولوا استجلاء عوامل تكون الأمة الروسية في ذلك الوقت حيث كان الروس مجموعات من الصيادين الوثنيين المنقادين لسلطان الخزر. ولعل أشهرهم المؤرخ وعالم الآثار ليف غوميلوف (1912- 1992) صاحب كتاب "استكشاف خزاريا"، الذي كان المسعودي دليله في كل خطوة خطاها بحثاً عن المملكة الضائعة.
تركيبة سكانية منوعة
يحدد المسعودي المكونات السكانية لمدينة آمل عاصمة مملكة الخزر: "وآمل التي يسكنها ملك الخزر في هذا الوقت ثلاث قطع يقسمها نهر عظيم يرد من أعالي بلاد الترك ويتشعب منه شعبة نحو بلاد البرغز وتصب في بحر مايطس، وهذه المدينة جانبان، وفي وسط هذا النهر جزيرة فيها دار الملك، وقصر الملك في وسط هذه الجزيرة، وبها جسر إلى أحد الجانبين من سفن، وفي هذه المدينة خلق من المسلمين والنصارى واليهود والجاهلية".
وحول اليهود يقول إنهم "الملك وحاشيته والخزر من جنسه، وكان تهوَّد ملك الخزر في خلافة هارون الرشيد، وقد انضاف إليه خلق من اليهود وردوا عليه من سائر أمصار المسلمين ومن بلاد الروم، وذلك أن ملك الروم، في وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وهو أرمنوس، نقل من كان في ملكه من اليهود إلى دين النصرانية وأكرههم في ملكه في هذا الوقت المؤرخ، فتهارب خلق من اليهود من أرض الروم إلى أرضه على ما وصفنا، وكان لليهود مع ملك الخزر خبر ليس هذا موضع ذكره".
وقد روى المسعودي تلك القصة في كتاب آخر من كتبه إذ تحدث عن مناظرة فاز فيها اليهودي على المسلم والمسيحي اللذين اعترفا بأنبيائه، بينما هو أنكر أنبياءهم، فدخل نتيجة ذلك ملك الخزر اليهودية هو وقومه، وشكلوا في ما بعد أساس طائفة اليهود الأشكناز.
وحول الوثنيين الذين كانوا يعيشون في مملكة الخزر فقد كتب المسعودي: "وأما من في بلاده من الجاهلية فأجناس: منهم الصقالبة (السلاف)، والروس، وهم في أحد جانبي هذه المدينة، ويحرقون موتاهم ودواب ميتهم وآلاته والحلي، وإذا مات الرجل أحرقت معه امرأته وهي في الحياة، وإن ماتت المرأة لم يحرق الرجل، وإن مات منهم أعزب زوج بعد وفاته، والنساء يرغبن في تحريق أنفسهن لدخولهن عند أنفسهن الجنة".
ويرى المسعودي أن هذا الفعل هو "من أفعال الهند إلا أن الهند ليس من شأنها أن تحرق المرأة مع زوجها، إلا أن ترى ذلك المرأة".
ويلفت المسعودي النظر إلى أن غالبية أهل مملكة الخزر من المسلمين، ويستطرد في ذكر مناقبهم وسطوتهم: "لأنهم جند الملك، وهم يعرفون هذا البلد باللارسية، وهم ناقلة من نحو بلاد خوارزم، وكان في قديم الزمان بعد ظهور الإسلام وقع في بلادهم جدب ووباء، فانتقلوا إلى ملك الخزر، وهم ذوو بأس وشدة، وعليهم يعول ملك الخزر في حروبه، وأقاموا في بلده على شروط بينهم: أحدها إظهار الدين والمساجد والأذان، وثانيها أن تكون وزارة الملك فيهم، والوزير في وقتنا هذا منهم هو أحمد بن كويه، وثالثها أنه متى كان لملك الخزر حرب مع المسلمين وقفوا في عسكره منفردين عن غيرهم لا يحاربون أهل ملتهم، ويحاربون معه سائر الناس من الكفار، ويركب منهم مع الملك في هذا الوقت شخوص منهم سبعة آلاف ناشب بالجواشن والدروع والخوذ ومنهم رامحة أيضاً على حسب ما في المسلمين من آلات السلاح، ولهم قضاة مسلمون".
ويشرح لنا المسعودي آليات التقاضي في مملكة الخزر فيقول: "ورَسْمُ دار مملكة الخزر أن يكون فيها قضاة سبعة: اثنان منهم للمسلمين، واثنان للخزر يحكمان بحكم التوراة، واثنان لمن بها من النصرانية يحكمان بحكم النصرانية، وواحد منهم للصقالبة والروس وسائر الجاهلية يحكم بأحكام الجاهلية وهي قضايا عقلية؛ فإذا ورد عليهم ما لا علم لهم به من النوازل العظام اجتمعوا إلى قضاة المسلمين فتحاكموا إليهم وانقادوا إلى ما توجبه شريعة الإسلام".
جيش مملكة الخزر من المسلمين
ويقول حول تركيبة الجيش الخزري إنه "ليس في ملوك الشرق في هذا الصقع من له جند مرتزقة غير ملك الخزر، وكل مسلم من تلك الديار يعرف بأسماء هؤلاء القوم اللارسية، والروس والصقالبة الذين ذكرنا أنهم جاهلية هم جند الملك وعبيده، وفي بلاده خلق من المسلمين تجار وصناع غير اللارسية فروا إلى بلاده لعدله وأمنه، ولهم مسجد جامع، والمنارة تشرف على قصر الملك، ولهم مساجد أخرى فيها المكاتب لتعليم الصبيان القرآن، فإذا اتفق المسلمون ومن بها من النصارى لم يكن للملك بهم طاقة".
ملك الخزر
يلفت المسعودي نظر القراء إلى قضية مهمة وهي أن ملك الخزر ليس هو الخاقان، "وذلك أن للخزر ملكاً يقال له خاقان، ورسمه أن يكون في يدي ملك آخر وهو وغيره، فخاقان في جوف قصر لا يعرف الركوب ولا الظهور للخاصة ولا للعامة، ولا الخروج من مسكنه، معه حرمه، لا يأمر ولا ينهى، ولا يدبر من أمر المملكة شيئاً، ولا تستقيم مملكة الخزر لملكهم إلا بخاقان يكون عنده في دار مملكته، ومعه في حيزه، فإذا أجدبت أرض الخزر أو نابت بلدهم نائبة، أو توجهت عليهم حرب لغيرهم من الأمم، أو فاجأهم أمر من الأمور، نفرت الخاصة والعامة إلى ملك الخزر، فقالوا له: قد تطيرنا بهذا الخاقان وأيامه، وقد تشاءمنا به، فاقتله أو سلمه إلينا نقتله، فربما سلمه إليهم فقتلوه، وربما تولى هو قتله، وربما رقَّ له فدافع عنه؛ لأن قتله بلا جرم استحقه ولا ذنب أتاها. ويبدو أن الترك الذين استولوا على الخلافة العباسية استعاروا هذا النظام فحولوا خليفة بغداد إلى خاقان مثل الذي يتحدث عنه المسعودي الذي يتساءل إن كان هذا التقاسم بين الملك والخاقان قديم أم حديث، ويضيف: "وإنما منصب خاقان هذا من أهل بيتٍ بأعيانهم أرى أن الملك كان فيهم قديماً، والله أعلم".
بعد ذلك يتحدث عن زوارق الخزر التي يركب فيها "الركاب التجار في نهر فوق المدينة يصب إلى نهرها من أعاليها، يقال له برطاس، عليه أمم من الترك حاضرة داخلة في جملة ممالك الخزر، وعمائرهم متصلة بين مملكة الخزر والبرغز، يرد هذا النهر من نحو بلاد البرغز، والسفن تختلف فيه من البرغز والخزر".
ثم يتحدث عن أمة أخرى من الأمم الخاضعة لملك الخزر تسمى برطاس. ويقول إنها: "أمة من الترك على هذا النهر المعروف بهم، ومن بلادهم تحمل جلود الثعالب السود والحمر التي تعرف بالبرطاسية، يبلغ الجلد منها مائة دينار، وأكثر من ذلك، وذلك من السود، والحمر أخفض ثمناً منها، وتلبس السود منها ملوك العرب والعجم، وتتنافس في لبسه، وهو أغلى عندهم من السمور والفنك وما شاكل ذلك، وتتخذ الملوك منه القلانس والخفاف والدواويج ويتعذر في الملوك من ليس له خفان ودواج مبطن من هذه الثعالب البرطاسية السود".
أعلى منابع الفولغا
ويتحدث المسعودي عن أمتين شماليتين تسكنان في أعلى منابع نهر الفولغا الذي يسميه نهر الخزر والذي لديه مصب في خليج من بحر نيطس (بحر آزوف)، وويقول إنه "بحر الروس لا يسلكه غيرهم، وهم على ساحل من سواحله، وهي أمة عظيمة جاهلية لا تنقاد إلى ملك ولا إلى شريعة، وفيهم تجار يختلفون إلى ملك البرغز وللروس في أرضهم معدن الفضة كثير نحو معدن الفضة الذي بجبل بنجهير من أرض خراسان".
ويقول إن عاصمة البرغز تقع على ساحل بحر مايطس (البحر الأسود)، ويقول إنهم "نوع من الترك، والقوافل متصلة بهم من بلاد خوارزم من أرض خراسان، ومن خوارزم إليهم، إلا أن ذلك بين بوادي غيرهم من الترك، والقوافل مخفرة منهم".
ويضيف أن "ملك البرغز في وقتنا هذا –وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة – مسلم، أسلم في أيام المقتدر بالله، وذلك بعد العشر والثلثمائة، وذلك لرؤيا رآها، وقد كان له ولد حجَّ، وورد مدينة السلام، وحمل معه للمقتدر لواء وبنوداً ومالا ولهم جامع، وهذا الملك غزا بلاد القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداً ويشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وأرض برجان والجلالقة والإفرنج.
ومنهم إلى القسطنطينية نحو من شهرين متصلين عمائر ومفاوز، وقد كان المسلمون –حين غزوا من بلاد طرسوس من الثغر الشامي مع أمير الثغور ثمل الخادم المعروف بالزلفى ومن كان معه من مراكب الشاميين والبصريين سنة اثنتي عشرة وثلثمائة – قطعوا فم خليج القسطنطينية وفم خليج آخر من البحر الرومي لا منفذ له، وانتهوا إلى بلاد فندية، وأتاهم في البحر جماعة من البرغز ينجدونهم، وأخبروهم أن ملكهم بالقرب، وهذا يدل على ما وصفنا أن البرغز تتصل سراياها إلى ساحل بحر الروم، وكان نفر منهم ركبوا في مراكب الطرسوسيين، فأتوا بهم إلى بلاد طرسوس".
وقصة إسلام ملك البرغز تذكرنا بقصة إسلام ملك البلغار في رحلة ابن فضلان، فالمؤكد أن البرغز هم نفسهم البلغار القدماء، وثمة خطأ ما في قراءة مخطوطة المسعودي، فلعله كتبها برغر وهي قريبة من بلغر.
وفي وصفه لأمة البرغز يقول إنهم "أمة عظيمة منيعة شديدة البأس، ينقاد إليها من جاورها من الأمم، والفارس ممن أسلم مع ذلك الملك يقاتل المائة من الفرسان والمائتين من الكفار، ولا يمتنع أهل القسطنطينية منهم في هذا الوقت إلا بسورها، وكذلك كل من كان في هذا الصقع لا يعتصم منهم إلا بالحصون والجدران، والليل في بلاد البرغز في نهاية من القصر في بعض السنة ومنهم من زعم أن أحدهم لا يستطيع ان يفرغ من طبخ قدرة حتى يأتي الصباح، وعلة الموضع الذي يكون الليل فيه ستة أشهر متصلة لا نهار فيه، والنهار ستة أشهر متصلة لا ليل فيه وذلك نحو الجدي، وقد ذكر أصحاب النجوم في الزيجات علة ذلك من الوجه الفلكي".
بلاد الروس
ويعود إلى الروس ليصفهم بأنهم "أمم كثيرة وأنواع شتى، ومنهم من يقال لهم اللوذعانة، وهم الأكثرون، يختلفون بالتجارة إلى بلاد الأندلس ورومية وقسطنطينية والخزر".
وقال: "بعد سنة الثلاثمائة ورد عليهم نحو من خمسمائة مركب، في كل مركب مائة نفس، فدخلوا خليج نيطس المتصل ببحر الخزر، وهنالك رجال ملك الخزر مرتبين بالعدد القوية يصدّون من يرد من ذلك البحر، ومن يرد من ذلك الوجه من البر الذي شعبه من بحر الخزر تتصل ببحر نيطس، وذلك أن بوادي الترك الغز ترد إلى ذلك البر وتُشتِّي هنالك، فربما يجمد هذا الماء المتصل من نهر الخزر إلى خليج نيطس، فتعبر الغز عليه بخيولها، وهو ماء عظيم، فلا ينخسف من تحتهم لشدة استحجاره، فتغير على بلاد الخزر، وربما يخرج إليهم ملك الخزر إذا عجز من هنالك من رجاله المرتبين عن دفعهم ومنعهم العبور على ذلك الجمد".
ومن المؤكد أن حديثه عن اتصال بحر الخزر ببحر نيطس هو وهم في فهم المعنى فالواضح أن المسعودي يقصد نهر الخزر الذي هو الفولغا والذي يعد نهر الدون من فروعه ويصب في بحر آزوف الذي هو بحر نيطس، أو أن بحيرة الدون كانت أكبر مما هي عليه الآن، فاتصال البحرين عن طرق الأنهار، كما سيمر معنا، وليس عن طريق مضائق، كما توهم بعض الدارسين. وأما أمة الغز فهي الأمة التركية التي خرج منها التركمان والسلاجقة والعثمانيون فيما بعد.
ويضيف المسعودي أنه "في الصيف فلا سبيل للترك إلى العبور، فلما وردت مراكب الروس إلى رجال الخزر المرتبين على فم الخليج راسلوا ملك الخزر في أن يجتازوا البلاد وينحدروا في نهره فيدخلوا نهر الخزر ويتصلوا ببحر الخزر الذي هو بحر جرجان وطبرستان وغيرهما من بلاد الأعاجم على ما ذكرنا".
ويذكر المسعودي معلومة هامة عن امتهان الروس القدماء للقتل والنهب والسبي في بلاد الفرس الذين يسميهم الأعاجم، فهم يقدمون "لملك الخزر النصف مما يغنمون ممن هناك من الأمم على ذلك البحر". ولذلك كان يبيح لهم ذلك ولا يقاومهم.
غزو الروس لبلاد المسلمين
ثم يشرح المسعودي ما صنعوا في وقته فيقول: "دخلوا الخليج واتصلوا بمصب النهر فيه، وساروا مصعدين في تلك الشعبة من الماء، حتى وصلوا إلى نهر الخزر، وانحدروا فيه إلى مدينة آمل واجتازوا بها وانتهوا إلى فم النهر ومصبه إلى البحر الخزري، ومن مصب النهر إلى مدينة آمل وهو نهر عظيم، وماء كثير فانتشرت مراكب الروس في هذا البحر، وطرحت سراياها إلى الجبل والديلم وبلاد طبرستان وآبسكون، وهي بلاد على ساحل جرجان وبلاد النفاطة، ونحو بلاد أذربيجان".
ويقول: "فسفكت الروس الدماء، واستباحت النسوان والولدان، وغنمت الأموال، وشنت الغارات، وأخربت، وأحرقت، فضج من حول هذا البحر من الأمم، لأنهم لم يكونوا يعهدون في قديم الزمان عدوا يطرقهم فيه، وإنما تختلف فيه مراكب التجار والصيد. وكانت لهم حروب كثيرة مع الجبل والديلم مع قائد لابن أبي الساج، فانتهوا إلى ساحل النفاطة من مملكة شروان المعروفة بباكة (باكو عاصمة أذربيجان الحالية).
ويضيف شارحاً: "وكانت الروس تأوي عند رجوعها من غاراتها إلى جزائر تقرب من النفاطة على أميال منها، وكان ملك شروان يومئذ علي بن الهيثم، فاستعد الناس، وركبوا في القوارب، ومراكب التجار، وساروا نحو تلك الجزائر، فمالت عليهم الروس، فقتل من المسلمين وغرق ألوف، وأقام الروس شهوراً كثيرة في هذا البحر على ما وصفنا لا سبيل لأحد ممن جاور هذا البحر من الأمم إليهم، والناس مهتابون لهم، حذرون منهم لأنه بحر غامر لمن حوله من الأمم، فلما غنموا و سئموا ما هم فيه ساروا إلى فم نهر الخزر ومصبه، فراسلوا ملك الخزر وحملوا إليه الأموال والغنائم على ما اشترط عليهم".
ويبدو أن ممارسات الروس بحق بلدان المسلمين الفرس والكرد قد استفزت الجنود المسلمين في مملكة الخزر وهم اللارسية، فهاجموا هم والمسيحيون الغزاة الروس وطردوهم.
وقد روى المسعودي تفاصيل ذلك: "وعلم بشأنهم اللارسية ومن في البلاد الخزر من المسلمين، فقالوا لملك الخزر: خلنا وهؤلاء القوم فقد أغاروا على بلاد إخواننا المسلمين، وسفكوا الدماء، وسبوا النساء والذراري، فلم يمكن الملك منعهم، وبعث إلى الروس فأعلمهم بما قد عزم عليه المسلمون من حربهم، وعسكروا، وخرجوا يطلبونهم منحدرين مع الماء فلما وقعت العين على العين خرجت الروس عن مراكبها، وصافُّوا المسلمين، وكان مع المسلمين خلق من النصارى من المقيمين بمدينة آمل، وكان المسلمون في نحو خمسة عشر ألفاً بالخيل والعدد، فأقام الحرب بينهم ثلاثة أيام، ونصر الله المسلمين عليهم، وأخذهم السيف: فمن قتيل، وغريق، ونجا منهم نحو خمسة آلاف، وركبوا في المراكب إلى ذلك الجانب مما يلي بلاد برطاس، وتركوا مراكبهم وتعلقوا بالبر ؛ فمنهم من قتله أهل برطاس، ومنهم من وقع إلى بلاد البرغز إلى المسلمين فقتلوهم، وكان من وقع عليه الإحصاء ممن قتله المسلمون على شاطئ نهر الخزر نحواً من ثلاثين ألفاً، ولم يكـن للروس من تلك السنة عودة إلى ما ذكرنا".
عن الصقور وعرب القوقاز
بعد ذلك يتحدث عن ساحل طبرستان على بحر الخزر فيقول: "هنالك مدينة يقال لها الهم، وهي فرضة قريبة من الساحل، وبينها وبين مدينة آمل ساعة من النهار، وعلى ساحل جرجان، مما يلي هذا البحر، مدينة يقال لها آبسكون، على نحو من ثلاثة أيام من جرجان، وعلى هذا البحر الجبل والديلم، وتختلف المراكب بالتجارات فيه إلى مدينة آمل (عاصمة الخزر)؛ فيدخل في نهر الخزر إليها، وتختلف المراكب فيه بالتجارات من المواضع التي سمينا من ساحله إلى باكة (باكو)، وهي معدن النفط الأبيض وغيره، وليس في الدنيا – والله أعلم – نفط أبيض إلا في هذا الموضع، وهي على ساحل مملكة شروان وفي هذه النفاطة أطمة، وهي عين من عيون النار لا تهدأ على سائر الأوقات تتضرَّم الصعداء".
ويصف أنواع الصقور التي تجلب من جزر بحر الخزر (قزوين) كما يلي: "في هذا البحر جزائر أخرى مقابلة لساحل جرجان، يصاد منها نوع من البُزاة البيض، وهذا النوع من البزاة أسرع الضواري إجابة، وأقلها معاشرة، إلا أن في هذا النوع من البزاة شيئاً من الضعف، لأن الصائد يصطادها من هذه الجزائر فيغذيها بالسمك، فإذا اختلف عليها الغذاء عرض لها الضعف.
وقد قال الجمهور من أهل المعرفة بالضواري وأنواع الجوارح من الفرس والترك والروم والهند والعرب: إن البازي إذا كان إلى البياض في اللون فإنه أسرع البُزَاة وأحسنها، وأنبلها أجساماً، وأجرؤها قلوباً، وأسهلها رياضة؛ وإنه أقوى جميع البزاة على السمو في الجو، وأذهبها الصعداء، وأبعدها غاية في الهواء؛ لأن فيها من حرف الحرارة وجراءة القلب ما ليس في غيرها من جميع أنواع البُزاة، وإن اختلاف ألوانها لاختلاف مواضعها، وإن من أجل ذلك خلصت البيض لكثرة الثلج في أرمينية وأرض الخزر وجرجان وما والاها من بلاد الترك".
ويذكر المسعودي مملكة جيدان التي تقع حالياً في بلاد الداغستان، فيقول إن "ملكهم رجل مسلم يزعم أنه من العرب من قحطان ويعرف بسلفان في هذا الوقت، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، وليس في مملكته مسلم غيره وولده وأهله، وأرى أن هذه السمة يسمى بها كل ملك لهذا الصقع".
ويضيف: "بين مملكة جيدان وبين الباب والأبواب أناس من المسلمين عرب لا يحسنون شيئاً من اللغات غير العربية في آجام هناك وغياض وأودية وأنهار كبار من قرى قد سكنوها، وقطنوا ذلك الصقع منذ الوقت الذي افتتحت فيه تلك الديار ممن طرأ من بوادي العرب إليها، فهم مجاورون لمملكة جيدان، إلا أنهم ممتنعون بتلك الأشجار والأنهار، وهم على نحو ثلاثة أميال من مدينة الباب والأبواب، وأهل الباب يحذرونهم".