المرأة التي تحوّلت إلى بخار

17 فبراير 2018
ميساء محمد/ سورية
+ الخط -

عندما كانت هيلا لتستحم سقطت أذنها...

تفقّدت أذنها الثانية فلم تجدها، حاولت تذكّر آخر مرة رأتها فيها فلم تتذكّر، لا بدّ أنها سقطت في محلّ المنظّفات أو بينما كانت تنظّف المنزل، أياً كان فهي ببساطة قد اختفت.

في الأسابيع الماضية كان الآخرون يضطرّون لرفع أصواتهم وهم يتحدثون إليه، البارحة فقدت القدرة على سماع أي صوت.

وقفت في وسط الحمام، وانسابت مياه "الدُشّ" فوق كتفيها.

ماذا ستقول لزوجها اليوم؟

هل ستتحمّل سخريته اللّاذعة مجدداً؟

أم ستقضي ليلها تُرضع الصغير وتبكي؟

أحسّت برخاوة في قلبها، فنظرت إلى أظافر يديها التي ذابت هي الأخرى، والتي أخفتها بطبقة من الطلاء الشفاف، كانت نهايات أصابعها تؤلمها حين ترتطم بالأشياء، أحياناً كان الألم ينفلت على شكل آه، تعلمت منع هذه الآه بالعضّ على شفتيها.

فكّرت فيما قاله لها الطبيب الذي زارته: "يبدأ الأمر بالتدريج ثم يتساقط كل شيء مثل ستارة ترمى دفعة واحدة".

صار الماء البارد يضرب ظهرها، جذبت شعرها من الجهتين وغطّت أذنيها وهي تفكّر كيف ستخفي الثقبين؟

اقتربت من المرآة الطولية لكن البخار الكثيف حجبها، مسحت المرآة فتراكم فوقها البخار مجدّداً، شعرت بعجز كبير، حتى المرآة تقف ضدها ولا تريها ذاتها، فكّرت وهي تعضّ شفتها ما الذي تريد أن تراه أصلاً؟

هيلا الفتاة التي تدير الرؤوس بحيويتها لم تعد موجودة، الفتاة التي كانت في شبابها ناراً مستعرة، تفكّر الآن في طريقة لإخفاء تفكّك جسدها عن الآخرين، لو عرف سام سوف يدمّر ما تبقى من روحها بسخريته اللاذعة.

منذ توقّف عن حبها غطّى وجهه قناع ممثل هزلي، وكل همّه إضحاك الجمهور بأي ثمن، إذا اكتشف غياب أذنيها سوف ينتظر اجتماع العائلة ثم يبدأ بتلك الحركات، كأن يزيح خصلة شعرها أو يتحدّاها أن ترفعه..

المسرحية اليومية التي تبدأ بعد تناول العشاء سوف تكون هي بطلتها، ستغضب في النهاية وتركض نحو غرفة الصغيرين، تصفق الباب بقوّة وتستمع لتأنيب والديه وبقية الجمهور الذين سوف يتقاذفون كرة الشفقة، وهو يردّد: كنت أمزح.

تتذكّر هيلا جيداً كيف بدأ الأمر؟

حين أنجبت طفلها الأول سقط أحد أسنانها، ومع ولادة طفلها الثاني لاحظت تغضّناً عند عينيها فأصيبت بفزع كبير، عندما اكتشفت عشيقة في حياة سام تساقطت أسنانها دفعة واحدة وهي تنظفها صباحاً بالفرشاة، سقطت مع المياه في المغسلة مثل زجاج مكسور ثم ذابت مع الرغوة، وحين لاحظ غياب أسنانها صار يطلب إليها في حضور والديه وأصدقائهما أن تفتح فمها لثانية ثم يكرّ في ضحك رخيص.

طلبت الطلاق لكن القاضي أخبرها: أن الطفلين سيكونان للزوج، وقبل أن تغادر القاعة شعرت أن حذاءها صار واسعاً، أخرجت قدمها من الحذاء كانت الاصابع قد تحولت إلى ديدان صغيرة..

صار سام يغيب عن المنزل ويلمح إلى عشيقاته الشابات موفورات الصحة ذوات الأرداف الضخمة، أما هي فقد تعلّمت التجاهل وبرعت فيه.

في صباح البارحة كانت تعدّ زجاجة الحليب للصغير حين رنّ هاتفها وأخبرها أنه لن يعود اليوم أيضاً.

"لا بأس"، قالت له بصوت جهدت ليبدو طبيعياً.

اقتربت من المرآة ومسحت البخار، منذ طفولتها كانت تحبّ المرايا، وتعتقد أنه يوجد خلفها عالم مختلف عن عالمنا، تذكّرت الحكاية التي كانت ترويها لها جدتها، أخبرتها بأنها إذا تمنّت بصدق فسوف تسمعها المرآة، لذلك أغمضت عينيها، وقالت وهي تلصق وجهها بالمرآة: "ليته لا يعود أو أختفي أنا".

سمعت المرآة صوتها وارتجفت صفحتها الصلبة وتحوّلت إلى نهر عذب، عندها رأت هيلا ظلاً يتشكّل، كان ذلك ظلّها الذي أخذ يتضح بالتدريج، وعندها عرفت ما ستفعله..

سكبت الشامبو في راحة يدها وبدأت بفرك رأسها، كانت خصل الشعر تذوب مع رغوة الصابون حتى تلاشت، سقطت القدمان وارتطمت ركبتاها بالبلاط، جذعها أيضاً هوى وتبدّد قبل أن يصل إلى الأرض، الرموش الكثيفة التي كانت تدير الرؤوس يوماً لم تكن موجودة هي الأخرى، العينان البنيتان اللتان كانتا بلون الشوكولا الغامقة طارتا نحو المرآة.

لم يبق منها سوى القلب النابض مرمياً فوق البلاط مثل حبّة فراولة ضخمة، كان ينتفض كل دقيقتين تحت الرذاذ البارد.

أطلّت من المرآة شابة جميلة بشعر طويل وأظافر لامعة وثديين أخّاذين، ونظرت نحو ما تبقى من هيلا، ابتسمت المرأة فظهرت أسنانها الصغيرة، القلب النابض فوق أرض الحمام سحرته الابتسامة فصار يقفز مثل عصفور، تعثّر مرتين قبل أن يتمكن من القفز، باعدت الشابّة بين ثدييها وقفز القلب إلى مكانه.. تكاثف البخار وغطّى المرآة التي سكنت صفحتها بالتدريج، وأغلقت بواباتها مثلما يغلق باب قصر سحري.

أمام الباب السحري يوجد حمّام، خارج الحمّام توجد شمس حادّة، وشوارع ترابية، وجباه قاسية، وتلفاز غبي.. ثرثرة الجيران، والحروب.. داخل المرآة، يوجد قمر فضي وسهل لا حدود له، يوجد صباح طازج وفارس ينتظر..

هيلا الآن لديها حبيب تجوب برفقته السهول، ويتراهنان كل صباح على من يجمع أكبر قدر من الفراشات. (في عالم المرايا لا توجد ذاكرة ولا قوانين ولا زمن، فقط مروج صفراء وعشاق لا يعرفون الملل).


* كاتبة سورية

المساهمون