المحاكمات العسكرية

18 ديسمبر 2014
+ الخط -

عملت دول العالم المختلفة على إنشاء سلطة قضائية فيها، للنظر والفصل بين أفراد المجتمع فيما بينهم من قضايا ومنازعات، وفقاً لقوانين وضعتها الدولة، ما جعل البشرية تعيش في حالة من الاستقرار والأمان، حيث يعمل القضاء على معاقبة الجاني، ورد الحق للمجني عليه، ولولا  القضاء لأصبحت البشرية غابة يأكل القوي فيها الضعيف.
وحتى يكون هناك حياد في الأحكام، أصبحت السلطة القضائية مستقلة داخل كل دولة، كما عملت الدول على سن القوانين والتشريعات التي تكفل محاكمة عادلة لأفراد المجتمع من المدنيين. قضاة المحاكم المدنية من خريجي كليات متخصصة في تدريس القانون، مثل كلية الحقوق في مصر، ويتدرج القاضي في مناصبه، حتى يصل إلى أعلى مناصب القضاء، في الوقت نفسه، عملت المؤسسات العسكرية على إنشاء قضاء عسكري، يختص بالنظر في القضايا التي تخص العسكريين، أو المعتدين على المنشآت العسكرية من غير العسكريين. ويخضع القضاء العسكري لسلطة وزير الدفاع، وجميع القضاة وأفراد النيابة أفراد عسكريون مختلفو الرتب، يخضعون للوائح الضبط والربط المبينة في قوانين الخدمة العسكرية. ويقوم وزير الدفاع، بناءً على توصيات رئيس هيئة القضاء العسكري، بتعيين القضاة العسكريين الذين لا يتمتعون بالتبعية، بدرجة الاستقلال نفسها التي يتمتع بها القضاة في دوائر المحاكم المدنية.
ومنذ الخمسينيات، ومع بدء حكم العسكر في مصر، عمل جمال عبد الناصر على إحالة مدنيين إلى المحاكمة أمام القضاء العسكري، وما تبعه من أحكام جائرة، وكذلك فعلها حسني مبارك مرات خلال فترة حكمه.
وكان من أهم مطالب ثورة 25 يناير، توفير ضمانة عدم محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وبعد ضياع الثورة بالانقلاب العسكري في يوليو/حزيران 2013، فوجئنا بالقضاء يتحول آلة في يد السلطة الانقلابية، للبطش بالثوار في الشوارع، وما تبعه من أحكام بالإعدام وأحكام جائرة أمام القضاء الذي يعتبر الحصن الأخير للعدالة، ولم تكتف سلطة الانقلاب بهذه المذابح القضائية للمواطنين المصريين، فقد أصدر قائد الانقلاب في 27 أكتوبر/تشرين أول 2014، قراراً بالقانون رقم 136 لسنة 2014، يوسع من اختصاص القضاء العسكري، ليشمل جرائم التعدي على طيف واسع من المنشآت والمرافق العامة، بما فيها "محطات وشبكات وأبراج الكهرباء وخطوط الغاز وحقول البترول وخطوط السكك الحديدية وشبكات الطرق والكباري، وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة، وما يدخل في حكمها"، على أن يمتد العمل بهذا القانون عامين.
وتسمح أحكام القانون بمحاكمة أي مدني متهم بتخريب الممتلكات عامة، المشار إليها، أو قطع طرق عامة أمام محكمة عسكرية، وهي اتهامات كثيراً ما توجه إلى المتظاهرين المتهمين بمعارضة الحكومة، حتى إنه، طبقا لما لدستور العسكر، يعتبر ذلك خرقاً للمادة 204 من دستور الانقلاب، والتي اشترطت، لمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، أن يكون هناك اعتداء مباشر على المنشآت العسكرية، أو معسكرات القوات المسلحة، وعلى الرغم من أن القانون المشار إليه لم ينص على تنفيذ أحكامه بأثر رجعي، ولأن البلد لا يحكمها قانون، فقد كانت المفاجأة بتنفيذه على حوادث تم الادعاء زوراً بأنها تمت في أغسطس/آب 2013.

ويعد هذا القانون الذي صدر حالة طوارئ غير معلنة، و بمثابة إشارة من قائد الانقلاب للفتك بالثوار أمام المحاكم العسكرية. وبالفعل، فهم النائب الخاص الإشارة، ولربما جاءته الأوامر فلم يتأخر في تلبية الإشارة، فأحال 439 معتقلاً في المنيا والبحيرة إلى القضاء العسكري، كما قضت محكمة جنح الإسماعيلية بتحويل 4 طالبات في المرحلة الثانوية، والمعتقلات منذ مارس/آذار 2014، إلى محاكمة عسكرية في جنحة، وليست جناية، ورقمها 3160 جنح الإسماعيلية، على الرغم من إخلاء سبيلهن قبل هذا القانون المشؤوم، إلا أنه تم تحويلهن، ومعهن 13 طالباً تتراوح أعمارهم من 15 إلى 20 عاماً. ومن الجدير بالذكر أن تلك الواقعة تعد الأولى من نوعها، حيث لم يسبق أن تمت إحالة فتيات إلى القضاء العسكري على ذمة قضية سياسية، منذ تأسيس النيابة العسكرية إبان حكم عبد الناصر، وفي 15 ديسمبر/كانون أول الجاري، تمت إحالة 312 معتقلاً، بينهم المرشد العام للإخوان المسلمين، إلى المحاكمة العسكرية.
وقال مختص في القضاء إنه، طبقا لهذا القانون، يجوز تحويل جميع المتهمين أمام النيابة، الآن، وهم من لم تحول قضاياهم إلى الجنايات، إلى المحاكم العسكرية، ما يعني بداية مذبحة للثوار بيد القضاء العسكري، وكذلك أن هناك قضايا عديدة ستحال إلى القضاء العسكري في الأيام المقبلة، وطبقا لرويات متهمين محالين إلى القضاء العسكري، إنهم يتعرضون للتعذيب، وغيره من أشكال المعاملة المهينة في أثناء الاعتقال أو الاحتجاز.

والمحاكم العسكرية، فضلاً على أنها ليست القضاء الطبيعي للمدنيين، فإنها سيئة السمعة، حيث يتم انتزاع اعترافات المتهمين تحت وطأة التعذيب، ولم يتواصل أي منهم مع محام من اختياره في أثناء الاستجواب المبدئي من سلطات الاعتقال، أو النيابة العسكرية، الأمر الذي يقوّض الحق في الدفاع الكافي.

وعلى الجانب الآخر، يواجه المحامون، أيضاً، صعوبات في الحصول على ملفات القضايا، ومن ثم تجهيز دفاع مناسب، ناهيك عن أن المحاكمات تقام داخل منشآت ووحدات عسكرية شديدة الحراسة، تجعل من الصعب الوصول إليها ودخولها، سواء من المحامين أو ذوي المتهمين. لم يكتف العسكر بالسيطرة على الحكم، وعلى كل مقدرات الدولة، بل وخيراتها، بل لجأوا إلى محاكمة أبنائها المدنيين أمام القضاء العسكري الذي يحكم به، فيصبح بذلك الخصم والحكم في الوقت نفسه، ما يشير صراحة إلى فشل العسكر في تركيع الشعب، ببطشه واستخدامه آلة القتل والقضاء الذي يعمل بالكنترول، فأراد أن يحصل على الرهائن في معسكره، ليفاوض بهم ويهدد بقتلهم في الوقت الذي يريد.

هذه هي طريقة تفكير العسكر الذي يعتبر الشعب أعداء، يجب استخدام كل الأساليب القتالية معهم، ومن المؤكد أنه، كما صمد الشعب، أمام كل ما سبق، فسيصمد، ويواجه العسكر حتى لحظة النصر، ولعلها قريبة.

avata
avata
إبراهيم صالح (مصر)
إبراهيم صالح (مصر)