الليلةَ ستدقُّ الأجراسُ في بغديدا

26 ديسمبر 2015
ضياء عزاوي/ العراق
+ الخط -

1
أراها هنا، وإن كنتُ بعيداً عنها
كما أرى السماء كلَّ لحظة
أراها هناك، في مكانِها نفسه
بصمتها أمام الله
بفراشاتِها ساعة الغروب.

كلَّ يوم تأتيني
تلوّح لي قبل أن أنام..

لن تختفي مهما أطاحَ الحزن بي
لن تختفي مهما علا الغبارُ دكّةً صلّيتُ فوقَها
لن تختفي مهما شحَّ الغيمُ بأناشيدِه.

في أخطائي الجميلة بغديدا* تختفي
في الطيورِ تدقُ كلَّ صباحٍ على نافذتي لتوقظَني من النسيان.

صامتةً تدقُ النواقيسُ، هذا اليوم
صمتُها صوتُها في المدى، يدور
هنا بغديدا
هنا بغديدا
كأنها رذاذُ ماءٍ باردٍ، يتطايرُ من ثيابٍ تنفضها امرأةٌ على وجوهِ أطفالها الفرحين فوق سطح الدار قبل أن تنشرها على حبل الغسيل.

هنا بغديدا
وهناك أولادٌ يقفون خلفَ النافذة، يتلصّصون على ظلالِ الأمس
جدُّنا كان هنا، على تلك الرابيةِ يشخُرُ ساعةَ يشاء
هنا رجلٌ كهلٌ، كَم مِن حروبٍ مرَّت عليه، فكان يشطُبها بحكايةٍ يسلّي أحفادَهُ بها.

مهما اسودّتْ الليالي كعشبٍ أحرقته الشمس
بغديدا بكلِّ أناقتِها ستخرُجُ بمفردِها
لاأحد يحرُسُها
وحيدةً بذاتها
وحيدةً بأبنائها
وهذا أقصى أمانيها.


2
هذه الليلة كأنّي اسمعُ النواقيسَ من هناك تدق
ونواقيسُ العالم كلُّها ترددُ الصدى

أتعثّرُ رغم البردِ بسخونةِ الليل
أتركُ روحي تَهيمُ عند ذاك الجدارِ المهشَّمِ خلفَ دارِنا
حيثُ الترابُ طريٌ
والأحجارُ
كلّما ابتعدتُ عنها تشتاقُ لي.

الليلةَ مع رنةِ النواقيس أسمعُ اسمي
ليس اسمي أنا وحدي
بل أسماء كلِ اصدقائي
جوزيف وخوشابا ودانيال وماركريت

ستذكُرُهم رنةُ النواقيسِ رغَم كثرتِهم
واحداً
واحداً.

كما لو أنّها عطشى، سيعلو صوتُها
ستدقُ الهواءَ إلى إن يشرقَ الصباحُ
ومن العذابِ سيسقطُ الغزاةُ صرعى.

ليس ظلاماً في بيتِنا ذاك الذي يرقُد عند أطرافِ الناحية
ليست عتمةً تلك التي تسدُ الطريقَ إلى باب الكنيسة
كلُّ شيٍ كما لو أن لا شبيهَ لهُ يبدو هناك.

ستمرُّ العرباتُ وهي تئنُّ من ثقِلها تحملُ حكمةَ أجدادِنا
أمامَ كلِّ بيتٍ ستقف، ترمي شيئاً من بضاعتِنا على العتبة
مع كلِ دورةٍ يعلو صوتُ العجلاتِ ليوقظَ الترابَ المكدَّسَ على النوافذ.

الليلةَ ستدقُّ الأجراسُ في بغديدا ليس كما اعتادتْ أن تنادي على أبنائِها.
ستناديهم بأسمائِهم
ستكرّرُ النداءَ مرَّاتٍ ومرّات
لأنها تعلمُ جيّداً أن في ندائها سيموتُ الأعداءُ قبل أن يهدِموا الكنيسة.


* شاعر من العراق

** بلدة سريانية في محافظة نينوى شمال العراق يقطنها أكبر تجمّع للعراقيين المسيحيين، تتوسّطها سبع كنائس وعدد من الأديرة التاريخية والتلال والمناطق الأثرية، استولى عليها "داعش" بعد سقوط الموصل قبل عام ونصف، فنزح أهلها إلى إقليم كردستان العراق.



اقرأ أيضاً: أشكّ بك يا توازن العالم

دلالات
المساهمون