اللوحة الأخيرة

23 اغسطس 2015
إيلي كنعان / لبنان
+ الخط -

إلى أبو صطيف
الغائب كأنّه لم يكن


1
هاكَ يا أبا صطيف.. وارسمْ لي فتاةً تحبّـني.


2
مضى عقدٌ من الزّمن وأنا أحاول أن أعرف ما الذي شغل بال "أبو صطيف" في تلك اللّيلة.
هل كان لدمعة محبوسةٍ في عينيه كآخر قطرةٍ في ميزابِ العمر أن تفضحَ سرّه القاتم؟ وهل كان لسيجارةٍ في يده اليسرى أن تُنافس ريشةً في يده اليمنى على تشكيل ما تبقّى من أحلام أصدقائه؟

هباءُ الأحلام، وفوضى الأصدقاء، وتلك الليلة المنسيّة؛ تلاشوا جميعاً مع أول قذيفة سقطت على أطراف قريته.

أذكر تماماً كيف كان يصرّ على إشعال سيجارته بعود كبريت. أذكر وهج النار في عينيه وخيالات الضوء المتماوج على وجهه المنحوت من حجارة الزمن. تلك هي لوحتي المفضلة، تلك هي أجمل لوحاته التي لم يرسمها.

ما يزال أبو صطيف عالقاً في الذاكرة كندبة لجرح قديم في حرب الذكريات مع الوجوه الغائبة. وكنت أعرف أن النّساء يعشقْنَ آثار الجروح القديمة ويعشقْنَ كل الأسرار والحكايا الكبيرة المخبأة في ذلك الجرح الصغير.

لا أذكر أنّني رأيت وجهه عابساً يوماً، إلا أنّني أذكر أنه كان ينفث كل عبوس قلبه في أول سيجارة يشعلها في الصباح، وفي أول نفخة على عود الكبريت المتلألئ في سمرة كفيه المشقّقتين مثل الطين الناشف حول آبار المياه الجوفية في الأراضي البعيدة. كان يقول لي بلكنته الفاتنة:
- صرعتنا بفيروز. شو الله ما خلق غيرها؟

يقولها وهو يسحب من درجه شريط كاسيت مكتوب عليه "أغاني الثمانينيات"، ويضعه في المسجّل لتصدح جورجيت صايغ بصوتها الملائكي وخيال وجهها المطبوع في ذاكرتي كلوحة متحركة. وبعدها مروان محفوظ بأغنيته "خايف كون عشقتك وحبّيتك".

لا أعرف كيف مشتْ بي الذّاكرة إلى عمره المنهوب. كان أبو صطيف مثالاً داكناً عن الزوج المغبون بتقاليد العائلة وأعباء الابن البكر والزوجة الصالحة والزواج المبكر والافتخار بكثرة الأولاد ونظرية "الرزق على الله".

حدّثني في تلك الليلة عن ثورة الأحلام، عن مملكة الفراغ وفروسية الغياب وأميرة الحزن، عن آفاق الوجع في الأيام المغدورة على خشبات المسارح وضجيج أرصفة المدينة. حدّثني عن بائعة الكبريت ومتاهات الثلج الذي جـمّـد أصابعها وهي تحاول أن ترسم الحلم الأخير.


3
أبو صطيف، الغائب أبداً، كأنّه لم يكن أحداً، ربّـما يبحث اليوم عن علبة كبريت في زمن النار المفتوحة. ربما يبحث عن ربطة خبز أو لتر مازوت لزوجته وأولاده. ربما يرسم لي فـتاتي التي أحلم بها..

ربما أَحَبّها.. ولم يعد يذكرني.


*  كاتب من سورية

المساهمون